د.جاسم حسين الخالدي
ليس النقدُ العراقيُّ من القلةِ والصغرِ أن يركبَ أمواجَه العاليةَ والمتلاطمةَ، نقدة لا يعرفون الفاعل من المفعول به ، ويخطئون بأبسط المفاهيم النقديّة، ويجمعون بين النقائض، ويوظفون نصوصاً ليست في مكانها، أقل ما يمكن وصف صنيعهم هذا بأنّه يشوش ذهن المتلقي، ويجعله يفرُّ من النقدِ إلى بيتِ النصِّ نفسِه.
نقادٌ لا تسمعُ منهم سوى مصطلحاتٍ ومفاهيم ليس لديهم القدرة على
فكِّ مغاليقها وكشفِ مخبواءتها، أو يستعيرون مصطلحاتٍ من هنا وهناك، ولا يعرفون معانيها؛لذلك يبدو توظيفهم له خالياً من أيةِ معرفةٍ بحدودِ هذا المصطلح أو ذاك، كما تبدو كتاباتهم مجرد كلماتٍ مرصوفةٍ لا معنًى ولا رباط يجمع بين اشتاتها.
وهنا اتذكر مقولة للدكتور عناد عزوان « إنَّ الذي يفكرُ بوضوحٍ يستطيعُ أن يعبرَ بوضوحٍ»، التي لطالما تردُ على ذهني وأنا استمعُ لبعضٍ منهم، وهو يصعد منصة الجواهري أو ينشرُ مقالته في هذه الصفحة أو تلك وما كلامه إلا هجين من مصطلحات وأفكار لا جامع لها، وعبارات تكتظُّ بما هو غريب وهجين ونقيض.
وإنَّ من المهمِ القول: إنَّ هذه الظواهر الصوتية قد اسهمت بعض المنتديات في شارع المتنبي في صناعتها وتصديرها إلى الوسط الثقافي، اذ صدّق بعضهم أنَّه ناقدٌ بحقٍّ، ومن ثم راحت هذه المنتديات تضفي عليهم صفة) الناقد (أو( الناقد الكبير)، وهو لا يحسنُّ تحليل بيتٍ شعريّ واحد أو يستطيع أن يضع يده على جماليات قصة أو رواية على الرغم من أنَّهم راحوا يتابعون ما ينشرُ بالقراءةِ والكتابةِ، وهو أمرٌ حسنٌ؛ لكن القراءة والكتابة ليستا بقادرتين على خلق ناقد حقيقي؛ فالناقدُ يحتاج أولاً ما يحتاجُ الى قدرةٍ نقديةٍ على كشفِ النصِ، ومن ثم جعله في متناول القراء بعد رفع اللبس عنه؛ لكن بعض النقاد ينتجون نصاً غامضاً مشوهاً، لا علاقة له بالنص الإبداعي؛ فتحول النقد عندهم الى اشبه بـ (الكلايش) ويمكن أن تركب على أيّ نصٍ شعريّ أو سرديّ.
كما أننا لا يمكن أن نبرئ بعض الصحف التي تواصل ملأ صفحاتها الثقافية بمواد أدبيّة لهم؛ إذ تنشر لهم بشكلٍ متواصلٍ، ولاسيما أن هذه الصحف لا تعطي مكافآت لكتابها، لذلك فإنَّ كثيراً من الكتاب الجادين يمتنعون عن النشر فيها، فلم تجد بداً سوى النشر لهؤلاء الذين، صفحات أدبية تُملأ بمقالاتٍ لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، يفخرُ أصحابها بأنَّ مقالته نُشرت في هذه الصفحة الأدبيّة في الجريدة الفلانية، ولم يدرِ هؤلاءِ المتشبثون بأذيال النقدِ أنَّ نشرَهم في هذه الصحفِ، ومن ثمّ في المواقع الاجتماعية لا يمكن أن يخلق ناقداً ما أو يقنع أحداً بهم ما لم يقدم الناقد نفسه شهادة حسن أفكار وكتابة ليقنع القراء أنفسهم بما يمتلك من قدرات كتابية ليخلق نصوصاً لا تقلُّ أهمية عن النصوصِ المدروسةِ
. والغريب أيضا أن بعصَ المبدعين- ممن لا تزيدهم هذه المقالات الركيكة شيئا- ينشرون في صفحاتهم أن فلان الفلاني قد خصَّ مجموعته الشعرية أو القصصية أو روايته بدراسةٍ نقديّة، وحين تسألُ المبدع هل نبهتك المقالة على أمر ما يمكن أن تتجاوزه في كتاباتك القادمة؟ فلا جواب يأتي والأدهى من ذلك أن المبدع نفسه ينفي أن يكون قد فهم شيئاً.
وعلى أيّة حالٍ فإن ظاهرة الناقد) الكلايشي) بدأت تتزايدُ في وسطنا الثقافيّ فصارت من السعةِ والانتشارِ ما يصعبُ الوقوف ضدها، فإذا ما وجدنا بعض الأصوات الصادقة التي ترفع في وجه بعضهم، أدعو – اليوم- كلَّ الأصوات الثقافية الشريفة أن ترتفع بوجهِ هؤلاءِ، وتقوض وجودهم؛ لأنَّ تفشي هذه الظاهرة في نقدنِا العراقيّ يضرُّ بهِ من جهةٍ، ويفقد الثقة بنقادِه من المبدعين أنفسهم.