مجموعة (بيت جني) مصداقا

الافصاح السردي والتمثل الافتراضي في القصة القصيرة
عبد علي حسن
(2-4)
فشارع الرشيد وساحة الغريري وباب المعظم وباب الشيخ ومديرية مجاري العاصمة والشوارع المغلقة / مكتبة مكنزي/ الرجال الذين أكلتهم الحروب والمفخخات/ الأرامل اللواتي صرن ضعفي العدد / البيوت المهدمة المهجورة / أن كل هذه المسميات قد امتلكت وجوداً واقعياً في ذاكرة المتلقي ، وقد كان على القاص أن يتجه صوب خلخلة مرجعية المتلقي وسحبه الى منطقة أكثر عمقاً من المجريات والمسميات المألوفة لديه فاستثمر كل هذه المجريات ليخلق نصاً افتراضياً ينعكس فيه أثر الواقع عبر لغة منتجة لخطاب آخر يتجاوز الظاهر من الواقع باتجاه عمق الظاهرة ليضع المتلقي في منطقة اكتشاف ودهشة غير معلنة أوجدها النص بالوثوق والاعتماد على نص الواقع المعلن والمكتشف . فانتقل النص من المكتشف الى اللامكتشف…
ويقترب القاص الربيعي في قصة ( أسرار )من فجائع الشارع العراقي ليفصح عن أقصى حالات الانتهاك الإنساني الذي شكل معطىً لما آلت إليه حرب الداخل وللوصول الى تحقيق نتائج متوازنة بين هذا الإفصاح وما ورائيته فأنه يقترض سرداً عجائبياً يقترب و يحايث عجائبيته وغرائبيته ما يجري في البلد ، وللانتقال من نص الواقع المكشوف والمكتشف في ذاكرة المتلقي فأنه يجنح الى تحليق افتراضه عبر تبني الشخصية المركزية للقصة ومسؤولية ملجأ الرشاد للمجانين الذي تعرض لسرقة محتوياته وأثاثه في نيسان 2003 وخروج النزلاء الى شوارع بغداد دون مأوى وتحويله بعد الاهتمام به الى ملجأ للفتيات القاصرات اللائي تعوزهن الحماية من مداهمة ( الغربان السود ) المستمر لهن واغتصابهن فالحدث الافتراضي ينبني على هيكل هذه الحادثة المعروفة ، ولأجل الوقوف على مجريات ما يحصل في الملجأ وخارجه فأن السارد العليم قد افترض أن أسرار الملجأ ما كانت تعرف لولا خضوع الشخصية المركزية لعملية غريبة في طبيعتها إذ كان المفروض هو معالجة تخمة المعدة من الكلمات والجمل التي شكلت فيما بعد فضحاً للأسرار التي كانت الشخصية حريصة على عدم إفشائها . إلاّ أنه . ( على مر الأيام صارت بطنه مخزن أسراره ، خاصة في عقد السنين الأخير ، لم يكن في حياته من يستطيع أن يأتمنه على ما يجري ، بالإضافة الى أن قناعته الذاتية بأن طريق الشكوى الى المسؤولين مغلق ولم يجدِ نفعاً … النص ص 59 ) وبدلاً من الانتباه الى المريض وهو في حالة التخدير الى هذيانه والتعرف على بواطنه الداخلية فأن العملية أساسا من اجل إخراج أسراره من معدته التي باتت متخمة بسببها ولم يجد سبيلاً الى إخراجها ، وأثناء العملية يبدأ الطبيب باستخراج الجمل والكلمات التي تشكلت على هيئة كتل سود (الطبيب كان يخرج من معدته تلك الجمل على هيئة كرات سود ، الجمل الواضحة كانت طرية لم تتكلس بعد … كان ينضد ما يخرج في صفين على طاولة التشريح ….النص ص 61).
وهنا يتشكل البناء الغرائبي للنص الافتراضي ، فالأسرار التي تكدست في داخل الشخصية لم تجد منفذاً لإخراجها سوى هذه العملية الجراحية من خلال هذا (الترصيف ) للجمل والكلمات تتعرف على ما يجري في ملجأ الفتيات القاصرات عبر سرد الراوي العليم ..، بضمير الشخص الثالث (هو) ( وجد الفتيات في داخل البناية يرتجفن من شدّة الجوع وعلى وشك الهلاك من الإهمال الذي أصابهن لمدة شهرين ( النص ص60) وشكل المعطى الواقعي حافزاً للذهاب بعيداً في تشكيل النص الغرائبي الافتراضي فالإشارة الى ما كنت تعاني منه فتيات الملجأ هو أمر حاصل قد شكل خلفية للكشف عن ما وراء هذه الظاهرة ، خاصة وان النص قد تضمن إشارات وأحداث راكزة في الذاكرة الجمعية وان شكلت أسراراً كانت سبباً في انتفاخ بطن الشخصية المركزية بشكل يثير الاستغراب مما دعاه الى مراجعة الطبيب ، وهذه الإسرار المتعلقة بما كانت تعاني منه فتيات الملجأ قد بدأت بالتشكيل منذ عقد من الزمان وهي إشارة الى التحول في البنية الاجتماسياسية في عام 2003 .، ( لقد ابتدأت الأسرار بالتشكيل بعد انتهاء الحرب إذ وفد سرب من غربان سود في ظهيرة يوم قائظ ، كان يقطع المسافة قادماً من المدينة ومتجها مباشرة الى الملجأ …النص ص 62)
فقد كانت الفتيات بعد ذلك يتعرضن ليلاً الى مداهمات هذا السرب من الأشخاص ذو الملابس السوداء ويقومون باغتصابهن أو قتل من ترفض ، الأمر الذي جعل أعدادهن تتناقص شيئاً فشيئاً ، حتى أصبحن مائة واثنين وخمسون فقط من مجموع ثلثمائة بعد ثلاثة أشهر .
فمنهن من اختفت ومنهن من انتحرت ومنهن من هربت حتى بات هذا الأمر يقلقه ويتحول الى همّ وحزن كبير كان سبباً في انتفاخ بطنه من أسرار الملجأ ، ففي كل يوم يدون إفادات الفتيات اللواتي يتعرضن الى الاغتصاب ، أو الضرب ، وحتى أيقن بأنه لن يستطيع حمايتهن قرر فتح الأبواب ( ان الشحاذة اضعف الإيمان وعلى مدى عقد من الزمن كان يمر في الشوارع ليحصي الحمامات التي لا تبيض بل تلد عشرة ، فقد كان نصف عددهن يحملن سفاحاً… النص ص 63).
حاول القاص حميد الربيعي في نصه هذا من تقديم فصاحة سردية اشتملت على معطيات الواقع العراقي بتفاصيله المعروفة – التي شكلت أسراراً – في داخل الشخصية المركزية وكانت محفزاً لتقديم نص افتراضي / غرائبي ليصل بهذه الظاهرة – اغتصاب الفتيات القاصرات – الى ما ورائها عبر إسلوب التبعيد الذي اتخذه وسيلة بلاغية وسردية في بناء النص المتخيل المتمثل بأطر العملية الجراحية لاستخراج الأسرار التي لم يتحملها اثر تعرض الفتيات للاغتصاب والقتل وحمل السفاح …
طيلة عقد من الزمان وهو العقد الذي شهد التحول في البنية الاجتماسياسية العراقية ، وبذا فقد كانت وثيقة الواقع خلفية لتحرك الشخوص الافتراضيين وكذلك عجائبية العملية الجراحية لتجاوز وثائقية السرد المحض باتجاه تقديم نص أدبي مميز .
وتكشف قصة ( أذن من طين) تأثير الحرب الداخلية على تكوين شخصية الفرد العراقي عبر الإفصاح السردي لتأثير الأصوات الناجمة من انفجار السيارات المفخخة والعبوات الناسفة وصوت أطلاقات الرصاص هذه الثلاثية الضوضائية التي تقاسمت فضاء الشارع العراقي منذ 2003 وإزاء هذه الفوضى فأن الشخصية المركزية تعاني من عدم تقبل الأصوات العالية وضجيجها ويؤكد النص زمانية حصول هذه الحالة للشخصية ( لقد تراءى لها أن الأصوات باتت أشد صخباً ، عما كانت عليه قبل عقد من الزمان …. النص ص 66).
وهو العقد الأول من الألفية الثالثة الذي شهد انهيار البنية الاجتماساسية العراقية ودخول العراق في نفق الاحتراب الداخلي عبر التضاد الطائفي المسلح ، ويستثمر النص هذا الوضع الداخلي للمجتمع العراقي ليجعله الخلفية التي يؤسس على أنقاضها نصه الافتراضي الذي يؤكد انعكاس هذه الفوضى على الشخصية العراقية التي تمثلها شخصية النص السردي المركزية التي تعاني من ( تلك الفوضى التي تراها في الطرقات والأسواق والدوائر تحيل طبلة أذنها أولا الى الاحمرار ثم يتسع تقعيرها لتدخل الأصوات بشكل وحشي الى الطبلة ….النص ص 66) وعلى الرغم من تغيير مكان تجوالها الى النهر والحدائق ومحال بيع الموسيقى الهادئة حسب اقتراح مديرة عملها في المصرف إلّا أن تعرض أذنها للضوضاء ظلت قائمة مسببة لها الضيق المستمر والمؤذي ، . وبعد مراجعة الأطباء تبين أنها تعاني من حالة خاصة ونادرة الحدوث أفصح عنها الطبيب بقوله (إنها تعاني من شدة ضوضاء العراق ، هذا آخر البحوث التي وصلتني من الخارج .. النص ص 68 ) لقد طرح النص تشخيصاً مباشراً لحالة الشخصية المركزية كان بالإمكان ان يترك التوصل إليه للمتلقي خاصة وان المعطيات النصية تساعد المتلقي في التوصل الى حالة الشخصية المركزية وهي الفوضى والضوضاء الحاصل جراء أصوات المتفجرات والمفخخات وأصوات الرصاص ، يعد من وجهة نظر طبية وعدّها حالة نادرة الحدوث ، وهو ما يريد النص من التوصل إليه بعد الإفصاح السري لحالة الواقع العراقي الذي كرسته بنية الزمان والمكان ، فعلى صعيد الزمان فأن النص أكد وضع هذه الحالة للشخصية المركزية ( قبل عقد من الزمان ) أي العقد الأول من الألف الثالثة وهو عقد المفخخات والمتفجرات والرصاص الطائش.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة