بيان نقدي !

في الغالب تصدر بيانات شعرية لها ضجيج و وقع خاص ، هذا ما شهدناه على يد اجيال الشعرية العراقية منذ ستينات القرن الماضي حتى اخر اعلان شعري ، أقول: إعلان لان الكثير من هذه البيانات كانت ذات وظيفة دعائية لجيل او لشاعر واحد ارتأى ان يضاد المشهد لأسباب فنية او اعلامية أحس بوطأة الغبن على منجزه من جرّائها ، بالطبع هذه البيانات يكتبها الشعراء و ليس النقاد وهنا تكمن مفارقة من نوع ما ، الشاعر الذي يريد تعميم مجسات ذائقته على مجمل فكرة الشعر، ثمة إقصاء خفي ! ربما ريادة او سبق و في كل الاحوال ثمة قصد. هل تصلح ذائقة شاعر ما او مجموعة شعراء لاحتكار فكرة الشعر ؟ هذا السؤال بصيغة المأزق نطرحه على الشاعر الناقد ، سؤال يهمني على وجه الدقة بوصفي أجمع الاشتغالين ، ليس سهلا ان يتخلص الشاعر بالمرة من إرثه الذوقي و هو يمارس وظيفته النقدية لكن الاكيد ان رقي الذائقة ضمان لرقي الممارسة النقدية التي يمارسها الشاعر ناقدا ، ثمة نسبية في هذا الموضوع ، ما يهمني الان هو السؤال عن البيان النقدي ! هل صدر يوما ما بيان نقدي ؟ ام ان الممارسة النقدية لا تجرؤ على الاعلان عن مقصدياتها بشكل واضح ؟ يكشف هذا الامر ان اغلب نقادنا غير فعالين في مجال الفكر النقدي بل هم يستلمونه جاهزا ثم ينوّعون عليه تنويعات شتى تطبيقا او تنظيرا مضافا لأصل التنظير الوارد او المستورد على وجه الدقة ، ثمة نقص في نظريات المعروفة عموما وما نلحظه من فقر نقدي ناتج عن هذا النقص ، ليس جديدا مثل هذا التشخيص بل عالجناه قبل سنوات في كتابنا ( اسئلة النقد ) الذي قدّم استبصارا عن اشكالية المنهج و أزمته المزمنة ، اليوم نجد انفسنا بحاجة الى مداولة جديدة ربما على شكل بيان نقدي يتبناه نقاد جدد و برؤية عابرة للكسل الذي تفاقم ازاء تدفق المنجز النصي دون معاينات شافية تدس العافية في شرايين المشهد الادبي و الثقافي الذي أدمن التحجر حدّ اجترار المقالات الصحفية و عروض الكتب على انها نقد و هي ليست كذلك لفقرها المعرفي اولا و لأنها موظفة أصلا للترويج .. النقد ليس ترويجا بل هو علم وفن : علم من حيث انتاجه الدائمة لمعرفة نقدية لا تتوقف ومن حيث ضبط مفهوماته و مصطلحاته التي لا تقبل التداخل و التمويه كما يحصل في اغلب المقالات الصحفية الناقدة ، وهو فن من حيث لغته و رشاقة أدائه التي ينبغي ان تؤسس لنص ابداعي محايث للنص الاصلي ..هذه اذن دعوة لتنشيط الممارسة النقدية من خلال صدمة معرفية مدروسة لا من خلال جهد اعلامي بلا محتوى لان الغالب على تعبير ( بيان ) منحى الاثارة التي لن تصمد طويلا امام الفحص كما لا تصمد ايضا امام الزمن الذي لا يحفظ من الاشياء الا الأعمق و الأجدر بالحفظ لا النسيان.
جمال جاسم أمين

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة