علوان السلمان
النص الادبي.. نص معرفي تتشابك في تشكيله جملة من المعارف الانسانية (التاريخية والنفسية والاجتماعية..).ليشكل مجموع الملفوظات اللسانية الخاضعة للتحليل والاستنطاق.. كونه حالة من التسامي القائم على التخييل الممزوج بالواقع المسكون بالقلق…المتجاوز لجغرافية المكان والمألوف من الاشياء.. المختصر للامتدادت الزمكانية بوساطة عقل منتج..يوظف ادواته الفنية بتعبيرية مكتنزة بأبعادها الجمالية والفكرية التي تتجسد بشكل رمزي ودلالة اجتماعية مقترنة بالمحيط بكل موجوداته..
والباحث في بطون العوالم الميثولوجية ناجح المعموري الذي يشكل وجوده الابداعي ملمحا ناميا من ملامح اتجاه فني حدائي يعتمد الميثولوجيا في السرد والشعر اضافة الى محمود جنداري وجليل القيسي ومحمد خضير..اذ عكست سرديته النصية تطورا في الرؤيا الفنية لماهية الاسطورة وطرائق التعامل معها في نصه(رقيم ن) المنشور على صفحات مجلة الاديب المعاصر/1997..والذي يعتمد فيه الكاتب تشريح الواقع بكل تجلياته.. باستدعاء الاسطورة بشخوصها(مردوخ= كبير آلهة قدماء البابليين وقد سمي المولى الاعظم(مولى السماء والارض). آنو= اله السماء في حضارة بلاد ما بين النهرين.. بعل=آله الحرب عند الكنعانيين..انليل الذي يتشكل من(ان)و(ليل)= اله الهواء.. وسين= اله القمر في بلاد بابل وآشور.. وأدوني=سيد العدل/سيد البر..وبعل=آله الحرب عند الكنعانيين.. وعناة=من الآلهة الكنعانية التي ترافق(بعل)في سيرته الميثولوجية..)..لاضفاء دينامية حركية على النص وفاعليته النامية.. المسهمة في تغيير مجرى الاحداث بصفتها طرفا فاعلا ومتفاعلا واللغة..
(ينهض الحزن محمولا بأحلام الفرح الآتية ويشب الحريق منطفئا يستدعي في فورانه استيقاظ النخوة والغيرة من اجل انبثاق لحظة شرف واحدة عمرها مثل زمن اشتعال الحزن والفرح.. أو مثلما ينطفئ الثلج بالجمر الملقى تاجا في طريق العصور ليعلن عن نفسه في حقب لا تملك شارة الاعلان خجلا..
تعال يا حزن أدوني.. يابن المياه العميقة.. وايقظ عبر استراحة ضفتيك مواجع احلامنا.. ومراجل احزاننا الازلية.. انت باق كالازل وانا زائل.. ايها الاله المحجب بارتفاع القبة العالية في زقورة شادتها متاعب اجساد الرجال..والنسوة الطامعات بمخصبات الوسائد..وهيجان اللذائذ الليلية..)..
فالنص يقوم عل ثنائية(الحزن..الفرح/ الثلج..الجمر/ باق..زائل..)..وهي تحاكي الذات والذات الجمعي الآخر ابتداء من العنوان العلامة السيميائية بوصفه دالا فاعلا ومفتاحا اجرائيا بفونيميه المشيرين لبعديه: الدلالي والرمزي.. فضلا عن هيمنة المؤثرات المعرفية التي اسهمت في تجاوزه والخروج ببنائه المشهدي من السياق المألوف الى سياق لغوي مليء بالايحاءات..بتوظيف مفردات لها القدرة التوليدية الخالقة لصورها التي هي انعكاس للحالة الكامنة داخل الذات.. كالرمز(أدوني) سيد العدل.. والاستفهام الباحث عن جواب من اجل توسيع مديات النص الذهنية والدلالية(هل تتسع ذاكرة الملاحق بخوف الاحلام من اجل الامساك بمشاهد سنوات العمر الاولى؟)..والنداء.. الاستغاثة الباحثة عن المنقذ.. والتنقيط(النص الصامت) الذي يستدعي المستهلك(المتلقي) لاشغال بياضاته بما يتناسب والنص عبر لغة تعتمد السياق والتركيب الخالق للصور..
(مردوخ..يامن لم يستطع الحصن على احتمال قوتك وجبروتك.. لم استدعاك البراهما..؟.. لإخصاب الحياة الهندوسية واشاعة المواسدة الثنائية؟.. حتى في مواقد النار الزاحفة لهيبا وعصفا من بلاد فارس مختارة فروج النسوة منافذ عبور لها.. لتكون حكمة الهندوس في التقاء المتضاد..واحتواء المتعاكس مع بعضه.. لتشكل مسلة تقاليدها.. وليأخذ منها بوذا الرجل المستنير حكمة لوننا الاصفر.. ومعلنة تقاليده وطقوسه..)..
فالنص ينبثق من موقف انفعالي يتكئ على حقول دلالية (زمان/مكان/حدث/ثنائيات ضدية..)..مع تكثيف العبارة وعمق المعنى بجنوح الكاتب صوب التركيز والايجاز للتعبير عن لحظة انفعالية باستخدام النزعة البلاغية في المجاز والاستعارة اللفظية المفضية على النص عمق فكري وبعد جمالي.. اضافة الى اعتماد تقنية الانزياح في خلق الصور التي هي الاداة الكاشفة عن اصالة التجربة..
هذا يعني ان المنتج يجيد استخدام التضاد في انفعالاته الخالقة لصورها من جهة وتفاعلها الحدثي من جهة اخرى داخل عوالمه المستفزة لذاكرة المستهلك والمسهمة في نبش خزانته الفكرية والمعرفية..كونه يعي ان الفن هو(التعبير بصور)..والذي لا يتحقق الا بامتلاء المخيلة بالمعطيات الحسية التي يتفاعل معها بوعي.. اضافة الى غوصه في مديات الزمن البعيدة المعانقة للحاضر ابتداء من (مردوخ ومرورا ببوذا وانتهاء بايرا الاله الشيطان الذي دمر بابل وسيار وانتهاء بجلجامش الذي وجد مجده في خسارة وردة الحياة في اوروك..)..
(اور.. وامكنة الكلدان تدفع بعضها مجانين المحبة كي تساكنها مع وسائد النسوة التي ضجرت من حروب هي اختارتها لنا..حروب قاتلت بعضها بأبنائها.. وحروب أسست رمادها ونارها ثانية وثالثة ورابعة.. فيا مجد أور وياصوت الكلدان ستأتينا حرب لن تبقي غير الصولجان الالهي المحمول فوق نساء المعابد بديلا لرجولتنا: صولجان يوصف بكم ويأخذنا نحو موت جديد.. لم نشهد مثيلا له في الآتي.. موت بالدخان وبكاتم الجوع.. حتى لا تظل فسحة فوق مصاطب البغايا المقدسات.. لرجل في جسده بقية فحولة..)..
فالنص يكشف عن نبؤة تحققت في(حروب اختارتها السلطة لتبقى).وحروب الابناء مع الابناء طائفيا اوجدها احتلال مقيت.. عبر بوح اقرب الى حوار الذات باستنطاق المكان الرمز(اور) بصفته دال اشاري متشعب باحداثه التي شكلت بؤرة مركزية تجتمع فيها خيوط النص وتمنح نسيجه تماسكا ووحدة عضوية من خلال سرد شعري للمواقف المتوالدة عن تفجير اللفظ الرمز الدال على الحركة الكاشفة عن الافعال الانسانية.. فضلا عن استثمار التداعي والتفاصيل اليومية لإضاءة بعض العوالم المعتمة بلغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها للتعويض عن الغربة الذاتية وايجاد حالة من التوازن والعالم الموضوعي المأزوم..
(يأتي صوتنا من اوروك وبابل وآشور..يتناهض عابرا مساحات عيلام ليصعد متقدما نحو الهنادلة فاتحي ذاكرة الابواب وقلوب الشبابيك ليكون لهم هناك.. ويلقى ببقايانا وسط روائح الفلافل والبهارات ومطعمات الليالي الدافئة بثلجها ومشهيات الوسائد بلعبة القلائد الملظومة بقطع من جوز المرقوم بأسماء المهزومين في مضاجعات المراهنة أمام تمثال الالهة الام في معبدها الهندوكي..)..
فالنص يستدعي التاريخ من اجل استكمال البانوروما التي اراد المنتج التعبير عنها في نصه(رقيم ن)..فصار مادة كتابية وجدلية من خلال الاساطير التي شكلت خامات منتجة.. منحته طاقة لا تحدها حدود زمكانية..فكانت بنية النص تنحو منحى ملحميا وميثولوجيا مقترنة بالاطار الواقعي والحسي.. بحضور لغة حافلة بالمجاز والرمز لتجسيد الجانب التكويني في الاسطورة وهو ينطلق من قاعدة مرتبطة ببلاغته السردية الشاعرة.. المتأسسة على الانزياح والتجاوز.. واخضاع نصه لفكرة التداخل والميثولوجيات بنائيا وجماليا.. مع ارتكاز على الوعي الفكري والفني..
من هذا نستطيع ان نستنتج ان النص كتب تحت تأثير شروط فرضت نفسها على المنتج :اولها كان اجتماعيا معبرا عن جملة من التناقضات السياسية والفكرية.. وثانيها ميثولوجي مستلهم من تدفق النص تاريخيا ودلاليا..
(ابتهل يا(سين) ورتل صلواتك الالهية.. مستنجدا أو مستعطفا أباك كبير الالهة (انليل) لانقاذ مدينة المجد اور من متاعب حروبها ومشاجرات كهنتها على غنائم تنزل مثل المطر.. فلم تعد أور الصاعدة نحو مجد الازل.. مثلما كانت بسملة أنو وتمجيدات(انكي) صمتك(انليل)..حرب على مدينتكم التي باركت واسهمت في تأسيسها وجعلتها كعبة المدن..
لقد( تحطمت أور بفعل السلاح مثلما يتحطم اناء من فخار)..آه من هذا الخراب..)..
فالكاتب يوظف الاسطورة التي تتجلى على امتداد النص.. مكانيا وزمانيا وشخصانيا وحدثيا ورمزيا.. مع اعتناء بجمع عناصرها والمكونات الميثولوجية واسقاطها على الواقع..
من هذا كله نستنتج ان النص (رقيم ن)بكل مستوياته(الرؤيوية والتعبيرية ولغته الشعرية)..يتكئ على ميثولوجيا تاريخية توزعت مدياتها من بابل وآشور وكنعان وآلهتها(مردوخ وآنو وانليل وبعل وسين..) مرورا بالهندوس وبلاد فارس(الزرادشتية)..والتي شكلت دائرة الماضي المتفردة بقدرتها على احتواء الحاضر بواقعه الممزوج بالتخيلي لخلق صورة المستقبل الحالمة.. المكتنزة بطاقتها التعبيرية الخالقة لمشهدية قائمة على الحركة الدرامية باستدعاء لغة متمردة كاشفة عن تداعيات ذاتية وروح قلقة تعكس تطورا في الرؤيا الفنية لماهية الاسطورة..
فائدة: رقيم= لوح.. ونون الحرف الرابع عشر في الابجدية العربية وقيمته العددية(50) ودلالته الرمزية(الحوت) الذي ابتلع يونس(ع) ثم القاه على اليم.. وهذا يعني دلالة (القيامة والنشور)..اي تجديد روحي للوجود الكوني.. ومنهم من يرى ان(نون) هي الدواة والنقطة رأس القلم المغموس فيها.. مستندين على قوله تعالى(ن والقلم وما يسطرون)..