من أول التأمل الى أقصى التأويل
ناظم ناصر القريشي
يوقد أفكاره على الضوء خارجا من طلاسم اللغة و طلاسم الزمان و المكان , مرآته الشمس , والبحر مروحته , والريح بعض أحلامه , والزمن مختصرا لكلماته. هكذا هو الشاعر , وهكذا هو الشعر يجب أن يكون حرا و أن يتنفس المطلق و النقاء فهو طريق للحياة ؛ فالشاعر يكون أكثر نضجا وجمالا عندما يعي هذه الحقيقة و هذا ما دونه فتحي عبد السميع عبر ديوانه ( أحد عشر ظلال لحجر ) والصادر عن سلسلة «ديوان الشعر العربي» بالهيئة المصرية العامة للكتاب , فأفكاره حاضرة من خلال كلماته
والناظر الى شاعرية فتحي عبد السميع سيجد أن المتخيل الشعري لديه يعبر عن الأصالة الفريدة لذهنه فهو خليق بأن يعيد كل اللحظات عبر التفاصيل الصغيرة و يتركها تنمو و يبعثرها الضوء في الاتجاهات ظلالا على امتداد القصيدة , وفي تلك اللحظة التي نتأمل فيها الكلمات تجعلنا نسمو معها كروح هائمة في فضاءات مليئة بالحركة يمتزج فيها الحلم والواقع , الماضي والحاضر , الغياب والحضور واللحظات المنسية تحضر كذكرى الحاضر كما يقول هنري برغسون في كتابه فلسفة الزمن , بينما تملؤها النشوة وهي في علوها الأثير قابضة على روح الشعر ؛ فالضوء الصاخب خلف الحجر والذي ولد أحد عشر ظلا ؛ جعل الروح تغادر فيزياء الجسد وتحلق عاليا في ميتافيزيقية الشعر ,تحاول الوصول الى مملكة السمو كأنها تلامس المطلق في وجوده الأبدي , عبر اقتراحات صوفية و أفكار عرفانية , فالمسافة بين الظل واصله برزخ أو حلم و هذه هي القصيدة
فيقول في قصيدة ( قاطع الطريق الذي صار شاعرا):
أُطارِدُ جُثَّةً تَجري في ملايين القبور.
أَصطادُ حفرةً مطموسةً وأَفْرِدُها فوقَ طاوِلَتي
أَشُقّها بمطواتي وأُحَرِّرُ الزرازير.
تُرْعِبُني العَتْمَةُ حينَ تَذوبُ في العِظامِ
ولا يَعرفُها أحد
تُرعِبُني نَجَاسَةُ المَوْتَى
وهِيَ تَدْفَعُ النَّاسَ مِثلَ القرابين
في موكِبٍ لا نَرَاه.
أَلْتَفُّ بعتمةٍ صغيرةٍ
فَتَلْتَفُّ الدنيا كلُّهَا بالنور
أَجِدُ نفْسِي حينَ أَجِدُ عَتْمَتي
أنَا الِّلصُّ الذي يُغافِلُ العالَمَ السُّفْلِي
لِيَحمِلَ أرواحَ الأشياءِ
ويعيدَها إلى النور.
الشاعر كبروميثيوس سارق النار في الأسطورة الإغريقية , لكن هنا تتحد روحه مع لحظته الشعرية حيث يبدأ الإبداع في تشكيل ميثولوجيا حية في حين يتمنى أن يكون خروجه من تلك اللحظة منتصر ، بقبضته قصيدة هي النار المقدسة التي يحمل بها أرواح الأشياء ويعيدها الى النور ؛ بعد ما اتحدت روحه مع كلماته وعاش زمنها المطلق وتحدى اللغة وجعلها تتكلم خارج منطوقها المألوف وجعل من الشعر حارسا للروح ؛ وكأن الخلق و الأبتكار تمكن من أعماقه الداخلية فجسد الرؤيا جمالا , إذ منح كلماته مزيدا من الحرية والدلالة و جعلها تتكفّل بالتعبير عن هذه الرؤيا ؛ لبلوغ الانفعال الأكثر أصالة , لذا تجتهد كلماته دوما أن تنشئ فينا تلك القوة الروحية , فلكل كلمة مجد و لكل معنى مدى يماثل افقه من أول التأمل الى أقصى التأويل فيقول :
صديقي الطِّفلُ صارَ شَيْخا
تَرتَعِشُ أصابِعُهُ وهو يُمسِكُ كوبَ الماءِ
يُحاوِلُ غَرْسَ الملعقةِ في الطبق فتغوص في الهواء.
لم أَفقِدِ الأمَلَ في قيامِهِ فجأةً
لِيَقِفَ بِطُوُلِهِ في الشارع
يَشتمُ أولادَه الجاحدينَ
ويَقذفُني بحَجر
فالحجر متمرد على ظلاله بسمة التغيير الدائم على سكونه , والشاعر يعي هذا ويريد أن يقودنا إليه عبر دهشة تعتمد على تشكيل الصورة ذاتها , تماثل مساقط الضوء على الحجر ومن ثم القصيدة فهو شعر مفتوح على التشكيل بلوحات تجريدية بأنها أقرب الى صمت يتكلم
فالشاعر و بشكل مثير للدهشة جعل من الحجر موشورا لأفكاره والتي لا تظهر إلا حين تعبره فهو على قيد رؤية ما وراء الظلال
فكون بانوراما للظل خلال الوقت تتحرك ضمن انزياح بصري ذهني خاضع للابتكار بين متغير الظل وثبات الحجر وفق اقترابها أو ابتعادها عن ثيمة الديوان الرئيسية
أقفالُ العالَمِ تَتذَمَّرُ وتَفِرُّ مِنَ الأبواب
أقفالٌ عَفِيَّةٌ تَحفرُ تحتَ أشجار،
أو تُهرْوِلُ في أمعاءِ الحِيتَان باحثةً عن مَفَاتِيِحِهَا
وأُخرَى صَدِئةٌ تُغالِبُ الجذام وتَنبشُ في مَقالِبِ القِمَامة.
أقفالٌ لم تَعثُرْ على مَفَاتِيِحِهَا تَتَجمَّعُ في نَشيدٍ جنائِزي
تَدُقُّ على صدورِها وتُكَلِّمُ المَفقودِين.
الشاعر عبد السميع لا يريد أن يطرح الأسئلة أو يجيب عليها هو فقط يدون أحلامه , لذا الشاعر في اشد اللحظات إشراقا ذهب ليتوحد مع تلك الأحلام المنسية و الهامشية و العابرة كموجة بلا ضفاف أو زمن الذي في قصيدته فيجعل الدهشة تتملكنا ونحن نقترب من تلك الأحلام التي سنكتشف بعد حين أنها أحلامنا أيضا , و أنها كحزن قديم تحتويه غربة لم نغادرها للآن
لِي دَمٌ ولَحْم
لكنَّنِي انشغلتُ بِعِظَامِي
ما نَتَجَاهَلُهُ ونَنْشَغِلُ بِسَوَاه
لا يَبْقَى أبدًا في مَكانِه.
أَبكي فَتَسيلُ عِظَامِي
أَصرخُ في وَجْهٍ فَيمتَلِئُ بِشَظَايَا
تَعِبَ الجيرانُ مَعِي كثيرًا
حتَّى اعْتَادوا على عَظْمٍ يَسهَرُ مَعَهُم
تميل بنية قصائد الديوان الى التناغم بين حركة الضوء و بين الأفكار ؛ حيث تبقى الكلمات على قيد القصيدة باستدلالية الشعر ؛تلك الأفكار التي حملت رائحة الذكريات ، و نمت على شكل ترميز إيحائي لما تضمنته من أساطير آنية متدفقة ثرية وهبت النص جمال تعبيري ساحر من حيث الشكل والمضمون , جعلتنا ندرك طبيعة علاقة الشاعر ببيئته و الأشياء من حوله ، فيصبح الظل مكثفا بأفكار الشاعر التي تتحرك بحنين عبر أزمنتها التي ولدت منها و الأماكن التي احتضنتها فهو عمل على إعادة تشكيل حياته و استعادة اللحظات المهدورة عبر كلماته التي تستدرج زمنه المفقود الى القصيدة بإيقاعات هادئة رغم ملامح التمرد ,من خلال المشاهد التي بقيت عالقة بذاكرته , فكان صوت بيئته حاضراً من خلال كلماته ، فالديوان عبارة عن سيرة ذاتية للشاعر وعلاقته مع المكان والزمان
و الشاعر فتحي عبد السميع من خلال تجربته الشعرية الطويلة ؛ كمن يجمع النجوم في سلة واحده ويعكس الظل على الضوء فيجعله ينبض بالحياة , بعد ما أرتشفت الورقة كل الغيمات التي خرجت من أفكاره و الأحلام التي غفى معها , وهو عن قصدية ملهمة أخفى الظل الثاني عشر ومنح المتلقي أمكانية تأويله عبر التأمل.