جدل الأفكار هو العتبة الحقيقية لدخولها الحياة، فالأفكار التي لا تجادل بعضها ميتة، ولا قدرة لها على التعايش، ولا التغاير والتجاوز، وبالتالي فإنها ستنضب بسرعة وتفقد خاصيتها على الاستعمال والتداول.
في عالم(ما بعد الحداثة) وهو عالم افتراضي تفقد فيه الأفكار المركزية هيمنتها وقوتها، مقابل بروز اجرائي للأفكار الفردية، ولنمط من التداول الذي يجعل هذه الأفكار في سياق تنافسي، وحتى صراعي، لكنه مؤنسن وبعيد عن الاقصاء والتهميش والطرد، حتى بات هذا الأمر واقعا مقبولا في العالم بقطع النظر عن(المركزيات السرية) التي تحكم العقل الغربي، وتصطنع له سياسات وموجهات فيها كثير من الرعب والرقابة..
الحاجة الى الحرية هي الجوهر الذي ينبغي التعريف به والانحياز الى مشروعه، ليس للدفاع عن الأفكار الخاصة والمواقف الخاصة، بل لمنع استمرار رعب المركزيات من أنْ تفرض سلطتها المثيولوجية على الاخرين، وأنْ تتحول الى سلطة وحكم وايقونة والى مقدس، وهو ما بات واضحا في واقعنا، وفي سياق تشكّل الجماعات الارهابية، من خلال هيمنة الفكر الواحدي المركزي، والذي يُكفّر ما عداه، وينظر للآخرين بوصفهم مارقين وخارجين عن الأمة..
هذه الأزمة ليست شأنا سياسيا وحقوقيا فقط، أو جزءا من نظرية الحق العام، بل إنها أيضا جزء حقيقي من مسؤوليات الأنتلجنسيا، ومن نضالها الاجتماعي، والذي يتطلب وعيا ومواقف، وجدّة في النظر الى الوجود والى قيم المشاركة والتنوع والديمقراطية، وحتى الى الواقع السياسي والاجتماعي، وهذا لا يأتي بالنوايا، ولا بجلد الذات، أو تغليب النزعة المطلبية، والتسقيط وغيرها من الممارسات العمومية، بقدر ما أنه يحتاج الى وعي مهني، والى تعديل واقعي وحقيقي في زوايا النظر، وفي تبني برامج ثقافية فاعلة، وفتح حوارات موسعة مع عديد الجهات السياسية والثقافية وحتى الدينية، لأنّ حاجة التغيير تتطلب الخوض في الصعب، وفي مواجهة التحديات، وفي رسم خارطة طريق واضحة وقابلة للتنفيذ..
فكلنا يعرف أنّ تاريخ السلطة في العراق كان تاريخا للرعب، ولفرض المركزيات التي تخصّ الحكم والرقابة والسيطرة، وحتى النظر الى الفعل الثقافي بوصفه جزءا من هوية السلطة ومرجعية أفكارها وتوجهاتها، إنْ كانت سياسية أو دينية، أو حتى طائفية، وهذا بطبيعة الحال أسهم في تحجيم حرية العمل الثقافي، ودفع بكثير من المثقفين الى المنافي أو المعارضة السرية، أو ربما الخضوع، أو حتى العزلة بعيدا عن أي دور حقيقي في الحياة وفي منظومات التعليم والتنمية والبناء السياسي واشاعة قيم الجمال والمعرفة والعدل والمشاركة..
واليوم ووسط متغيرات كبرى وتحديا أكثر تغايرا يجد المثقف العراقي نفسه أمام استحقاقات لازمة، على مستوى وعيه، أو على مستوى خياراته ورهاناته، والتي تتطلب جهدا استثنائيا ومختلفا، وضمن توجهات أكثر واقعية، وأكثر معرفة بالواقع الجديد وطابعه الاجتماعية والسياسية والمكوناتية، وهو ما يعني ضرورة تعديل مستوى النظر من جانب، وتأهيل الوظيفة وسياقات عملها واولوياتها من جانب آخر، وبما يجعل الأفق الثقافي أكثر تقبلا للحوار والمشاركة والانفتاح دونما عقد أو حساسيات، لأن الحاجة الى التغيير اصبحت لازمة، والحاجة الى المشاركة اصبحت أكثر ضرورة وسط احتدامات وصراعات تحاول فيها الكثير من المهيمنات المركزية استعادة وظائف رعبها القديمة..
علي حسن الفواز
ضرورات الوظيفة الثقافية
التعليقات مغلقة