د. جاسم الصفار
كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، حينها كانت روسيا تمر بسنوات عجاف تهلهلت فيها سلطة الدولة وسادت سلطة المافيات. وقفت اتبادل الحديث مع صديق اذربيجاني كان يدير مؤسسة تجارية في مدينة بيرسلافل الروسية. ونحن منشغلون في حديثنا توقفت قربنا سيارة عليها ارقام موسكو وخرج منها شابان، أحدهما طويل مفتول العضلات يلبس نظارات سوداء والأخر قصير القامة عليه ملامح الضعة والانفعال.
سأل الشاب الموسكوفي الطويل القامة صديقي الاذربيجاني عن اسمه فأجابه صاحبي بعد تردد. عندها قال له الموسكوفي الطويل بلهجة عتاب وتحد بأن ابنه قد اساء التصرف مع «صاحبنا»، على حد تعبيره، مشيرا الى الشاب الذي كان يرافقه، وأن الامر يحتاج الى تعويض مالي عن الاساءة التي لحقت به.
تنحى الاثنان جانبا لمواصلة الحديث في الموضوع. وحسب ما اخبرني صاحبي الاذربيجاني في ما بعد، أنه قد عرض على الشاب الطويل المفتول العضلات، وهو ممثل لمافيا قوية في موسكو، حسب زعمه، بأن يجري التفاهم حول الموضوع مع مافيا أخرى لصاحبي علاقة بها في موسكو، هي ايضاً من المافيات القوية، كما ذكر صديقي الاذربيجاني، واتفقا على صيغة اللقاء بين المافيتين لحل الاشكال وتقدير قيمة المبلغ التعويضي الذي على صاحبي دفعه لتسوية الموضوع مع «صاحبهم» المتضرر، حسب ادعائهم.
كان للمافيات في روسيا تلك الفترة، فترة حكم الرئيس الروسي بوريس يلسن، سطوة وتأثير تفوق سطوة الدولة وتأثيرها. وكانت المافيات تتحكم في المسار السياسي والاقتصادي في البلاد. فمنها وبدعمها يولد السياسيون ويحققون نجاحات توصلهم من خلال صناديق الاقتراع الى سدة السلطة السياسية في روسيا الاتحادية ومقاطعاتها وجمهورياتها المختلفة.
ولم يتغير الحال في روسيا الا في العقد الأول من القرن الحالي بعد تسلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتن للسلطة. ليجري تفكيك ومطاردة المافيات، وإعادة التأسيس للدولة المدنية الاتحادية وترسيخ سلطة القانون والقضاء في روسيا.
لا تختلف العشائر العراقية اليوم في طريقة عملها وآليات انتاج سطوتها والاستفادة من تأثيرها عن مافيات روسيا في تسعينيات القرن الماضي. فما حصل مع صديقي الاذربيجاني الذي رويت حكايته مع المافيا بسبب خصام وإساءة تبادلها ابنه مع شخص من معارفه، يحصل بلا انقطاع في كل محافظات العراق الوسطى والجنوبية. وليس سوى فرق واحد هو ان العشائر العراقية تبالغ في الانفلات عن سلطة القانون وتفرط في استعمال السلاح.
والملفت هنا هو ان الانفلات عن سلطة القانون لم يضع العشائر يوماً تحت طائلة القانون او لائحة عقوباته، فللعشائر قوانينها التي تفوق في سطوتها قوانين الدولة ويلجأ اليها رموز سلطة المحاصصة لفض الخلافات التي تقع بينهم، كما حصل بين النائب حنان الفتلاوي وابوكلل. ورافق هذا الصعود في الاعتماد على سلطة العشائر وسطوة قوانينها وانحياز احكامها، تراجع في دور القضاء العراقي إلى مستوياته الخطيرة وارتفاع مؤشر عدم ثقة المواطن به، بسبب استشراء الفساد والمحسوبية فيه.
ونتيجة لتسلط القرار العشائري على المشهد الاجتماعي العراقي وهوان سلطة القانون، اصبحت العشائر تمارس تقاليدها بكل حرية، فاشيعت ظاهرة كتابة “مطلوب عشائريا”، او «مطلوب دم» على محال تجارية، ودور سكنية لمواطنين، وعيادات أطباء وغيرها، القائمة على احكام ارتجالية منحازة سلفا لصف المشتكي المنتمي للعشيرة. هذا عدا عن تصفية الحساب بين العشائر نفسها، والتي تستعمل فيها شتى انواع الاسلحة، لأتفه الاسباب.
يضاف الى هذه النشاطات الاجتماعية، نشاطات سياسية تتجلى في اتساع النفوذ العشائري وتأثيره في صناعة القرار السياسي، عبر تواطؤ معلن، في توجهات الأحزاب السياسية الحاكمة التي ما كان لها ان تستمر في الحكم الا بقدرة انتماءاتها الطائفية والعشائرية ونفاق رموزها ونخبها.
وفي جميع الاحوال فان العشائر العراقية بممارساتها الاجتماعية والسياسية وغيرها تعيد انتاج عناصر وجودها وقوتها على حساب مؤسسات الدولة الشرعية. وهي بذلك تطيح بمدأ المواطنة ودولة القانون. لذا فليس من المنطقي «ابتكار» مشتركات بين المنظومة العشائرية والتيار المدني الديمقراطي. وليس من خيار من اجل بناء دولة المواطنة، الدولة المدنية التي يحترم فيها القانون ويطاع، الا بالتصدي لسلطة العشائر وتفكيكها، ومعاقبة المتجاوز منها على سلطة القانون والقضاء، ووضع السلاح بيد أجهزة الدولة حصرا، ليكون استعماله على وفق ضوابط صارمة يفرضها القانون.
حكومة وعشائر ومافيات
التعليقات مغلقة