في نصوص (من الضاحك في المرآة؟) لجبار الكواز

قصيدة النثر بوصفها نصا منتفضا
أ.د. نادية هناوي سعدون

تتموضع نصوص جبار الكواز(من الضاحك في المرآة؟) في طبعتها الأولى والصادرة عن المركز الثقافي للطباعة في بابل 2016 في إطار الواقعية النقدية التي تتخذ خطا ناقما وثائرا والسبب أن النص الشعري ينزاح عميقا باتجاه الفكرة ليغدو نصا دلاليا أكثر منه نصا صوتيا وهذا ما تجسده اجناسية قصيدة النثر ..
رغم أن النصوص جميعها تنضوي تحت هذه الاجناسية الشعرية؛ إلا إن لها اشتغالا تكنيكيا خاصا رافق انزياحات الفكر ولاءم مقصدية الدلالة سعيا نحو استغلال فضاء الكتابة ليخرج النص الشعري من معتادية كتابة قصيدة النثر صوب المغامرة باقتناص مزيد من اللمحات الفكرية الغائرة التي لا تكاد ترى بالأسطر الممتدة أو القصيرة، بل ترى بالخطاطات والترسيمات بالمربعات والأسهم والإشارات وبالهوامش والملاحظات والملاحق والصياغات المقولبة باتجاه الانشطار والتفريع والتوالد، مع الميل إلى المزج ما بين قصيدة النثر والانثيالات العابرة والخواطر الوجدانية.
وهذا ما يجعل نصوص(من الضاحك في المرآة؟) موصوفة بمزية ما نسميه( النص المنتفض) الذي من صفاته انه لا يُبنى إلا على الارتياب والظن ولا يشيد إلا على الشك والقطيعة، إنه نص يشح بالفكرة حين يستزيد منها تقريرا ومباشرة وينشج لوعة حين يطرب ويؤلم ببوحه حين يصارح.
وهو نص لا تقوم له قائمة إلا بتضاده مع سياقه وهو يزدري حاله متقاطعا مع ذاته انه الشكوى التي ليس لها مستجيب والشكيمة التي لا بد منها وهو النص الذي يوازي الحياة ولذلك هو مصطدم دوما بواقع لا يجد فيه إلا الوجع والسواد والانهيار.
انه انتقام الذات الشاعرة لحالها والثأر على من حولها وما ذلك إلا لان الواقع المعيش مريب وفوضوي حيث الحياة لوحة غابت عنها الألوان وهي لوحة لا يرى فيها إلا التضاد بالبياض والنفور بالسواد الذي صادر البياض.
وبالحالين يختصر الشاعر رؤيته الواقعية الناقمة التي تقاطع فيها الأفقي بالعمودي وصادر الليل النهار ومحا الظل الضوء وانهار الحلم على جندل الحقيقة..
وهذا ما ينطبق على نصوص المجموعة كلها بدءا من أول نص بعنوان( أسلاك شائكة) الذي اشتبك فيه المكان بالزمان بخيوط صلدة بدايتها بياض ونهايتها سواد لتتصارع داخل مساحة ليس فيها للإنسان أي طائل وليس له فيها كيان واضح ..
وما لوحة الحياة إلا اشتباك ألوان تحولت بسببه إلى مستطيل بخطوط أفقية وعمودية تضادت حدودها بالمآسي والخيبات والخسارات ليغدو السواد هو الدمعة التي صادرت البياض فأحالته إلى عاشوراء برؤوس قطيعة.. وهذا ما يترك الذات صريعة سديم واجف يحث الخطى صوب المجهول بقوة وسرعة تخطف الأبصار:
كل سواد يمر بياض/ فمن علم الليل أن النجوم ظلام قبور؟ ص5
ولان الحياة لوحة لذلك تنتفض الذات محولة النص إلى تقاطعات من خطوط أفقية وعمودية وأشكال هندسية لعلها تردم فوضوية الحياة فلا شمس ولا بحر ولا عشب.. كحتمية للغلبة فتنطفئ ألوان قوس قزح وتتلاشى في العدم ليغدو الوجود كئيبا لا نهاية لسواده :
أيها السواد المبجل / ليس لحافرك حدوة غير الأرواح ص7
وما طغيان السواد على لوحة الحياة إلا إعلان للخذلان وإشهار للخيبة التي ينبغي أن تذعن لها الأرواح مبجلة الدم والتاريخ..
وما انتفاض النص إلا لأنه مستفز بدءا من العنوان الذي قيده بالأسلاك الشائكة فلا مناص أن يتحول المتن إلى رفض للسواد من خلال تقويض العوائق المانعة للانطلاق والتحرر لعله بذلك يتخلص من شرك التقييد والتحييد وعندها ستبدو لوحة الحياة متسعة لا يعكر صفوها أسلاك سدت طريقها أو موانع أغلقت منافذ انطلاقها:
أكان الطريق قفصا تقاتلت قضبانه لتزيح ظلها المحبوس فيما لا تراه( قال صبية أودعوا رجولتهم في العراء: إن الطريق كلالة / والكلالة قوس ينوح كلما انقطع وتر الموت واستفز التراب) ص9
وما على الذات الشاعرة إلا ان تتخذ من الانتفاض سبيلا لبلوغ حلمها وتحقيق أملها؛ وإلا فإن السواد سيظل لصيقا بما حولها مدنسا ما هو طاهر ومدلسا ما هو صاف ورقراق لكيلا تغدو شناعة السواد هي المرتجى والمأمول ليكون مصير اللوحة الحياتية الاحتراق الذي لن يخلف سوى الرماد والدخان.
ولقد آن للإنسان أن يثبت وجوده داخل هذه اللوحة التي كادت ألوانها أن تصادر الإنسان وتمحقه وتجعله شيئا لا قيمة له بعد أن كان هو الريشة التي بها ترسم الحياة.
وما انتفاض الذات إلا انقلاب على الكتابة ونفور للكلمة من الدلالة وتنكر اللون لضيائه. إنه الرغبة في تفكيك الأشياء لأجل إعادة إنشائها من جديد ليكون كل شيء في مكانه الصحيح بعد أن غلبت الفوضى وعم الخراب وساد التشتت والانهيار..
وليس في ذلك تلاعب كتابي بالكلمات بل هو تماه كلامي مكتوب بهندسية الانتفاض لعل الكلمة تحتل مكانها وان يكون لها زمانها فلا تنحصر داخل النص بل تمتد لتكون أداة قادرة على التغيير لا مجرد تعبير في لوحة الحياة التي وإن أقصت الذوات من خارطة سوادها إلا إن تلك الذوات تظل حاضرة في الغياب.
ولأنه نص منتفض لذلك لا يستقر على هيأة كتابية معينة فقد يعلق ما بين السطور منشطرا على شكل نصين متوازيين وقد يصمد وحيدا داخل شكل معين وقد ينفرط حروفا متعامدة وقد يتخذ مكانه لائبا على يمين الورقة أو شمالها وقد يبزغ محاطا بمربع أو مستطيل يتكور فيه وقد حاصره قول شعري يتناص معه تضادا وينفر منه واقعيا وخياليا كما في نص (ألوانه أمس ..ألواننا غدا) الذي يشاكس فيه شاعر اليوم شاعر الأمس الغابر القائل:
( بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا)
فشاعر الأمس يتغنى مفتخرا بماض لا يراه شاعر اليوم تليدا ولا ناصعا ولذلك يقف شاعر اليوم معاتبا شاعر الأمس متسائلا أين سواد الوقائع بعد أن أحالت هذه الوقائع حياتنا إلى أيام سوداء صبغت الحياة بالدخان وأحالت المستقبل عدما فتحولت الجداول والأيام والأغصان إلى موت ونوم ونشور..
ويستمر شاعر اليوم متسائلا أين مرابعنا الخضر وقد صارت غابرة خاسفة كاسفة حتى ما عادت لوحة الحياة ضياء بل ظلالا من دون ألوان وبلا نور..
ولكي ينتفض أكثر فانه يعمد إلى الخطاطات مجسدا نظرته للزمان ممنتجا الأشكال بمكانية( هنا وهناك وهنالك) فهنا أخضر وهناك اسود وهنالك احمر في دلالة على أن المكان القريب هو الذات التي ما زالت تحمل العطاء والنماء والبعيد هو الواقع الذي استحال بالأسود خرابا وفوضى.
وأما البعيد جدا فهو القادم الذي ليس فيه بصيص أمل لكن فيه خطرا ينذر بالحرب والدماء وأما البياض فلا وجود له كونه غادر اللوحة بعد أن صادره السواد واعتلى عرش اللوحة مغيبا بهجة الحياة بألوانها السنية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة