شعرية الفراغ وجمالية الحضور

فوتوغراف رفعت الجادرجي..
القسم الثاني
ناجح المعموري

رفعت يرى المشهد الحياتي مرات عديدة . هذا ما تعلن عنه الصورة المشحونة بالدقة والذكاء والتأني باتجاه القرار النهائي المتضمن المشهد ضمن ما تم التقاطه سابقاً وزمن اللحظة وحركة الافراد وايهما المطلوب مكان مزدحم ، أو فراغه متسع ومثل ذلك صور كثيرة سنفرد لها مقالاً خاصاً ندرس فيه المكان العام ، وأيضا المقدس وتمظهرات الموجود فيه من رجال ونساء وما يفضي إليه الفراغ من معنى وتعددات الدلالة مع فيض شعرية راشحة عن مكان مقدس ، وماذا يعني ذلك من تبديات « ولكن تدوم الصورة في الزمان ، أن تراكم العناصر المستعارة من واجهات الحدث : فهي تركيب ، فضلاً عن أنها ليست قابلة لاحتواء كل شيء ، أنها لا يمكن إلا أن تطور منطقها الزمني الخاص ، فهي مجددة من خلال ذلك العرف الذي يقتضي حضور الفضاء لكي يكون منسجماً في علاقته بالحقل الذي أعيد بناؤه ضمن آليات الإدراك البصري / غي غويتي / سبق ذكره ص110//
صورة رجل الدين على الغلاف الأول والثاني والموجود في الوسط ص49 كاشفة من خلال تعدد العلاقات الراشحة عنها وأبرزها غطاء الرأس باعتباره جزء من الزي المميز لرجل الدين كنظام ثقافي وعلاقة غطاء الرأس بالوجه وعينيه غير الواضحتين وهما ينظران نحو فضاء ابعد هو فيه وللوجه في الصورة مكانة بارزة ، تطفر علاماته متحركة وتقول اشياء كثيرة ، لكنها ليست ثابتة ، بل تظل فاعلة بإنتاج المعنى الذي لا يتعطل بالحركة ارتباطا بتعدد الرائي وتلويحته لما تشكل لديه من معنى واحد أو أكثر ، أهم ما يميز الصورة / الوجه هو استمرار توليه المعنى « لا شيء في تعبيرية الجسد لا يمكن إلا يودُ الى ما يشكل مادة للتذكر وسبيلاً من سبل التعرف . أن الهوية ، وجه ، والوجه هو ما تلتقطه العين وما تحتفظ به الذاكرة ، وما تحتفظ به أرشيفات أجهزة الأمن في كل أصقاع العمور . انه موطن اللغة وزمنها ، وموطن نظام رمزي يستعيد ، في الحياة اليومية ، امتداداته في كل الأعضاء الأخرى . لذا فهو مادة رمزية لا تنضب .
رجل الدين المنطلق بإيقاع فيه انسجام وشعرية استولدتها المساحة البيضاء المحيط به وقد تخيلها خطوط حاصلة بين العلاقات البلاط والذي لعب دوراً رمزياً دلالته مخبوءة في الوعي واللاوعي العميق ، حيث المعنى الخاص بكل شكل هندسي ، اقترحته الأصول الحضارية والبدائية الأولى وبما أن المكان هو استغراق المساحة كما أن الفضاء هو استخراج الحجم وما بين والفضاء ، كما بين الأرض والسماء / شاكر حسن آل سعيد / البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والأخر / الثقافة الأعلام / الشارقة / 2003/ ص203//
بينما يتعامل رفعت الجادرجي مع المكان بوصفه حيزاً صالحاً لإنتاج العمارة التي يتحول الفراغ في داخلها الى حيز جمالي ، يوفر نوعاً من العلاقة التبادلية بين العمارة والداخل ، وكلاهما يمنحان الكائن روحاً لا يتوصل إليها الفرد ، لكنه يحس بها من خلال مشاعر وتصورات تقوده باتجاه علاقة ، ليس سهلاً كسرها بعد الإدمان عليها ، ومثال ذلك صعوبة واستحالة توفر ما يساعد الكائن على الاستقرار والاستراحة والنوم سريعاً في مكان غير مكانه الأول والحائز على رمزية ، وشعرية عالية ، تجعل من المكان الأول ضناً رحيماً / امومياً ووظفنا الظاهراتية للاستعانة بها ، فأننا سنجد المكان الأول ليس بيتاً فقط ، بل هو ذات قيمة رمزية ، تعني الوطن وهذه المفردة تستدعي الكثير من التوابع التي يعرفها المتلقي ولا ضرورة للإشارة لها .
تمظهرات المكان في فوتوغرافيات رفعت ، لها دلالة رمزية حاضرة ، وليست غائبة ، فكرمزية قائمة في المكان المقدس والمحلات البغدادية والأسواق ، أو استراحة الرجل الفقير والاتكاء على الجدار وخوفه على عصاه المسترخية على فخذيه . كل فوتوغرافيات رفعت رمزيتها تومئ للمتلقي وبعضها اشارية ، لكن الوظيفة معها حولتها نحو الرمز ـ مثلما قال في « حوار في بنيوية الفن والعمارة .
وأعود مرة أخرى للدراسة المباشرة / العيانية من اجل التوصل لما هو مرتسم بذهنه من تخيلات عن صورة ، أو مجموعة صور ، ويستدعي هذا ـ كما ذكرت ـ التكرر على المكان ونشوء صداقة وفرصة تعرف عليه من اجل ما يريد تحقيقه رفعت … واستطيع توظيف رأي لرفعت حول الفنون والاستعانة به لإيضاح ما يبذل من اجل النجاح في فوتوغرافيات ستظل شاهداً على انثربولوجيا الحياة البغدادية : تقسم عملية أو دورة الإنتاج الى ثلاث مراحل ، الأول : التصور ، الثانية : التصنيع ، والثالثة : التلقي ، ولكل مرحلة من هذه المراحل إجراءات عملية تنقل الشيء من حالة لأخرى / سبق ذكره ص225//
أن الفراغ في المكان الداخلي للعمارة بوظائفها المحددة مسبقاً قبل المباشرة بالتشييد ، ليس اعتباطياً ، بل هو قصدي ، حتى البيوت الطينية في القرى الزراعية سابقاً . أي أن للفراغ في فوتوغرافيات رفعت وظيفة بنائية لا تعيد هيكلة المكان من جديد ، بل تفعل المعروضات اشاريا وتعطي الموجودات رمزية ما أو تضغط على المتلقي بشكل غير مباشر لينتبه لقوة الرمزية وطاقتها . ومن يقرأ « حوار في بنيوية العمارة « يتوصل لهذه الملاحظة الجوهرية لفنية العمارة التي ابتكرها رفعت الجادرجي ، وان لم يتحدث عنها ضمن حديثه الطويل عن نظريته الخاصة . وانا اكرر موقفي الثقافي بأن رفعت يعرف جيداً على الامكنة التي يريدها ، صفتها ووظائفها والمجال المراد تغذيته بها ، حتى يضع حداً لزمن البحث والدراسة والذهاب نحو التنفيذ . واختصر رؤيتي عن تجربة رفعت الجادرجي الخاصة بالفراغ ـ لا تعني سأتوقف عن ملاحقته ، لأني منبهر به ـ بأنه ينفذ في اللحظة التي يرى فيها تطميناً لرؤيته الفنية العالية وما تومئ إليه تلك الصورة من رمزية قادرة على اشباع حاجة المتلقي وتزويده بقيم نفعية ذات شعرية الية ، ترشحت له من داخل الرمزية التي اكدنا عليها باعتبارها مغذ جمالي ، وهذا ارفع ما يصبو إليه الفن .
تومئ مساحة الفراغ في داخل المكان المقدس ـ روضه الامام الكاظم للتجريد ، وهو أهم تمظهرات الفن الاسلامي الذي انشغل بذلك وغادر التشخيص استجابة للتحريم ، واستعاض عنه بالتزويقات والارابسك تحققاً لجماليات الداخل أو الخارج . وانا ارى بأن الفراغ يمثل نوعاً من التحرر لضغط موجودات كتلية في الداخل يعتقد الفنان بضرورتها لتحقيق املاء . وللتجريد الاسلامي وظائف جمالية أيضا ولن يكون بعيدة عنه . لذا لم يقتصر الارابسك على الاماكن المقدسة ، بل تم توظيفه في واجهات بعض البيوت والمساكن . والفراغ في فوتوغرافيات رفعت غير كلي ، والموجود فيه بمنحه جمالية ملفته للنظر وخصوصاً في الصورة ص51//
حيث المكان الواسع المزين بمكان صاعد بارتفاع واطئ يرسم حافة مزينة بمشتبكات حديدية ، شكلت حاجزاً ، توزع في مكانه نساء وأطفال . أما المكان الأوسع في الصورة فقد احتضن مجموعات من الرجال والنساء ، لكن أكثر عدداً . بشكل عام ظهرت الصورة بأشكالها الآدمية مزينة وكأنها تعيد إنتاج الفلسفة الإسلامية مع المكان وتعطيه جمالية من خلال رصد الموجود البشري المتناثر وسط المكان بطريقة أضفت بلاغة وبهاء على اللقطة . ولا اعتقد بأن المكان المقدس والفراغات الطاغية عليه في فوتوغرافيات رفعت لها وظيفة ميثية ، لان صفة المكان طاردة لذلك والشيطان مطرود من هذه الأمكنة التي تتظافر فيها مقدسات عديدة ، بالإضافة الى قداسة المكان الممنوحة له من الضريح الخاص بالإمام ، والذي يتشابك مع المطلق والمقدسات العديدة المتآزرة مع بعضها البعض وتتكرس طاقتها الروحية .
ويتناغم الفراغ مع غياب المظاهر الفنية المستعاض عنها بالارابسك ويستحقق نوع من التوازن والحضور الثنائي بين التجريد وفراغ المكان الذي تبدو فيه الموجودات الآدمية استكمالا للفضاء الروحي وكما قال د. عز الدين إسماعيل « أن التجريد لغة ، ولكنها لغة روحية ، لا جسم فيها ، وهي تخاطب أرواحنا بطريقة تلقائية / د. عز الدين إسماعيل / الفن والإسلام / دار القلم / بيروت / 1974/ ص75//

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة