محنة في الثقافة

قبل ثلاثة أعوام فقط، كان صديقي «ك.» على موعد سعيد مع دار النشر التي تولت طباعة وتسويق كتابه، وفي ذلك اليوم نفسه اصطدم باول احباط حين ابلغه صاحب مكتبة كبيرة انه لا ينبغي ان ينتظر مبيعاً كثيراً لكتابه. نسخة او نسختين فقط. اول جمعة لشارع الثقافة كان مزدحماً بالرواد. هذا ما جعل «ك» متفائلا إذ حمل عشرين نسخة من الكتاب ليوزعها على معارفه في صالات المقاهي ومنعطفات الشارع، وكان فرحا في ابتسامات التهنئة والتشجيع التي تلقاها من الاصدقاء الذين لم يتسن له الوقت لتوقيع «الهدية» لأكثرهم، لكنه في نهاية النهار وجد اكثر من نصف تلك الكتب مطروحة على قنفات المقاهي وزوايا الممرات. وبعد عام ابلغته دار النشر ان نسختين من كتابه بيعتا فقط ويمكنه ان يستعيد بقية النسخ، وبعد عام آخر اضطر صديقي ان يوافق زوجته على ان تحرق نصف الكتب المكدسة في المنزل، فانهم سيتحولون الى منزل جديد لا يتسع لكل هذه الصناديق من الكتب التي علاها الغبار. كان ذلك الكتاب قد انضم الى اطنان واطنان من الكتب التي التهمتها النيران عبر التاريخ، فرط اهمالها وشعور مؤلفيها بالخيبة واسباب اخرى تتعلق بحرية التأليف والتفكير، والبعض الكثير احرقت من قبل شرطة الثقافة، يوم كان للثقافة شرطة. لقد اضطر ابو حيان التوحيدي الى احراق كتبه، في ايام قال عنها «انها نحسة» وجاء في كتابه «المقابسات» شكوى الحال من تأليف الكتب بقوله: «الى متى الكسيرة اليابسة والبُقيلة الذاوية، والقميص المرقع.. وقد، والله بُح الحلق وتغيُر الخلق» ثم اورد انه احرق كتبه بيده قائلا «ما ظننت بأن الدنيا ونكدها تبلغ من انسان ما تبلغ مني». كما اقدم معلم الفراهيدي «ابو العلاء» الاديب البصري الشهير على طمر كتبه في باطن الارض ولم يعثر عليها بعد موته، متذرعاً، في ساعة يأس «بلا جدوى العلم في زحزحة الجهل» فيما القى داود الطائي الملقب بتاج الامة بكتبه الى امواج البحر مخاطبا اياها :»لا فائدة ترتجى.. فقد اعشى بصر القلب بصر العين». لكن الاديب المراكشي يوسف ابن اسباط حمل كتبه الزاخرة بالمواجيز العلمية والاكتشافات والفلسفة الى حفرة في جبل عصي على الوصول، وقد اتلفها هناك وهو يردد القول: «دلنا العلمُ في الاول، ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه».اما «سفيان الثوري» الذي هجا الاستبداد الاموي وحاصره المستبدون فقد اكتفى بتقطيع اوصال ما يزيد على الف جزء من مؤلفاته، ووقف على رابية ليذرو القصاصات رياحاً عاصفة، وعثروا عليه وهو يردد: «ليت يدي قطعت من هنا، ومن هنا، ولم اكتب حرفا». في جمعة المتنبي الماضية سألت صديقاً مكتبياً: ماذا عن سوق الكتب؟ قال: تحلحل بعض الشيء.. فتذكرت ان الاشياء المفرحة تبدأ دائماً من «بعض الشيء».
********
عباس محمود العقاد:
«إذا عجز القلب عن احتواء الصدق عجز اللسان عن قول الحق «.
عبدالمنعم الأعسم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة