رشيدة محداد
كان على موعد من حظ..باق على الصمت نظرة، وخبر..! جلس أمام مكتب المدير،يتطلع إليه بابتسامة عريضة،تكاد تلون جدران المكتب ألوانا من الطيف.. لا بد أنه سيكافأ على عمله الأخير ،بابتكاره منظومة جديدة للعمل .. -احم..المهم..استدعيتك لكي أنهي إلى علمك أننا..أنه..لم تعد الشركة بحاجتك،لقد عوضناك بمكنة سريعة..وأنت يا «رجل» أصبحت صدئا ..بطيئا..من خشب ! حظا سعيدا ! مد المدير يده يصافح «رضوان» هذا الأخير الذي دارت به الدنيا حطت رحالها بكلمة لعبت طويلا برأسه،أرجوحة فارغة : (يا رجل) ..يا رجل !! ربما كانت هذه مكافأة من نوع آخر، بعالم لا يعترف بالخشب أمثاله..أكان خشبا بالفعل ؟ وتلك الفكرة التي صفق لها الطاقم الإداري طويلا !….ماذا عنها ؟! ملعون من يترك الباب مواربا للقدر .. هو ساعة اللهو، متى شاء داهمك عبثا ،يحمل عنك كل الأدوار،ويبعث فيك كل المؤامرات، بتواطؤ مع الأشياء؟ كل الأشياء..حتى التي بنيت علاقة حب معها ،ودسستها بجيب سروالك الملتصق ،وبألبوم صورك.،أو حتى بخزانة ثيابك ،تعثر فيها على غياب مدسوس ،أو موت حاضر غائب ! هو ساعة العبث فجأة، متى شاء جاءك باسم الحبيب ، والمدير ،والابن والوطن . فلا تلبث أمام إغراءاته إلا أن تلبس بذلتك الرسمية،وتجالس كل هذه الأشياء ،بطاولة كرم عربية ،تقدم لهم نفسك طواعية كشجرة صفصاف ظاهرها شموخ ،وما هي إلا صفقة خاسرة بمهب ريح مخادعة ،تسقط ما تبقى بقلبها من أوراق الشموخ ، فصل هو من فصول لعبة القدر ! هام رضوان على وجهه باحثا عن رأسه بين الأرجل بشارع خلا منه،ومن جسده الذي علقه بمشجب أسئلة متضاربة.. لا عليك سيدي…!! لا تتأسف..ولا تتأفف..! هي غلطة رطوبة..وصدأ..!! سلمني أخطاءك.. نعلقها معا..بالمشجب… فذات زمن.. ستلين..العقارب.. وحتما… ستتحرك…الساعة…! كان جسده مفتولا،وعقله راجحا مصقولا ! فكيف لمكنة أن تبارزه تطرحه مهزوما ! لم يتجرأ على العودة لبيته ،بهكذا خبر قد يجلب له المزيد من أزيز الرأس،فاستدار عائدا نحو بيت صديقه محمود، حيث توجها معا الى مقهى بشرفة بحرية ..بشاطئ سيدي بوزيد بالجديدة .. وعلى طاولة نردية ،مدد رضوان حكايته بأحرف مقتضبة، حاول من خلالها مصطفى التخفيف عنه باقتراحه حلا ، قد يدر عليه إرباحا تعوضه عن عمله الروتيني..الاتجار بالهواتف النقالة والساعات اليدوية ! تأمل رضوان للحظات ،طاولة بالزاوية ،وغاب بتفاصيل لقائه الأول وزوجته ، هذا المكان شهد مبارزة القرح ،أسقطت السيوف نقطة بالكلمة ، لنستعيد رونقها فرحا بفستان أبيض ،ابتهج له «سيدي بوزيد « بموعد مسروق خال من المساحيق الكاذبة. الآن وقد جلس وقدره بطاولة نرد ، يتسامران .رمى سؤالا نرديا كاد يطيح بذاك الكرسي الهزاز من الذهول : – من تكون ..! – وهم..ربما وهم مار على سواحل الواقع..كلما مررت من هناك..خليت من نفسي..وخلت مني..حلل نفسي ! انتفض على رنين القطع النقدية ،التي وضعها صديقه مصطفى على الطاولة ،يؤدي ثمن قهوتهما ،وهو يعيد عليه الاقتراح ،بمحاولة منه إقناعه. كان اقتراحا لم يستحسنه رضوان ،فانسحب بعد سمر طويل مع صديقه،ليعود الى بيته ليلا،وبعد أن أخلد الكل لنوم عميق غير آبهين لغيابه! فاستسلم بدوره لنوم لم يخل من الأرق ،بجانب زوجته التي يبدو إن التعب أضناها،فسرق منها النوم على غفلة منها ! وبمحاولة منه استرجاع حياته السابقة،طرق أبواب شركات رفضت استقباله متذرعة أن لها من العمال فائضا، ستستغني عنه مع حلول السنة الجديدة. كل الأحلام باتت صفقات قوة.! الرابح فيها لص يختطف الفرح بطاولة منازلة ،أو ورق كوتشينة! مسألة حياة لا تعترف بالأقدار والضعف والاستسلام ،ولا بأصوات اليوميات ،وهي تتمزق ، ولا بالأبيض وهو يتسلق رأسها أخطبوطا مرعبا يعلنها..حياة عجوزا ! محاولات فاشلة ،جعلته يقتنع أخيرا باقتراح صديقه.فأمره سينكشف بعد حلول شهر ،لزوجته، وأبنائه الثلاث ! وبصباح مشرق،ظهر رضوان على رصيف المدينة القديمة،يقف مشيرا بيده للمارة،أن يقتربوا من «فراشته» المرتبة،جوارب رجالية ،ملابس داخلية وساعات نسائية براقة صفراء ،يهتف بعبارات سهر على نظمها شعرا ،وصار يلقيها على أسماع المارة ملحنة … فجأة ينتفض جيرانه(الفراشة) هاربين بسلعتهم وهم يصرخون: -المخزن..المخزن ! تحت ذهول رضوان، يظهر من بين الجموع شخص يرتدي زيا مخزنيا ،تتبعه مجموعة ترتدي نفس الزي..يتقدم نحوه،ينحني نحو الفراشة يجمعها،ويرميها بسيارة كبيرة …و يختفي أمام جموع تردد : -حرام عليهم ! مسكين !