السَورة.. المُفتَتح.. الترسيخ في: خدعتَني وأنتَ أبي

د. رشيد هارون

يضع نص « خدعتني وأنت أبي « المتلقي في مواجهة مع النص والموضوع الذي أقيم عليه، كما يضعنا بإزاء جرأة واضحة في تناول الأب بوصفه واحدا ممن يقترب من دائرة التقديس، على الرغم من أننا يجب أن نضع في الحسبان أن الأب أب نصّي، رُسم على شكل سَورة، ودلالته تطال كلّ معلم ومرب وناصح صدوق، وهو خارج سَورة الذم كما سيرد على الرغم من الإشارات الشخصية التي وجهت إليه لفظيّا: خدعتَني، حدثتني، شوّهتَ. ذلك أنها استهدفت غيره دلاليا كما سيرد أيضا من متحقق القراءة النقدية النهائي.
بُني النص على مقطعين: ( 1 ) و ( 2 ). وقد لاحظت أن كل مقطع بني على عدد من السورات وعلى وفق الآتي:
سورة الطفولة.
وأذهب إلى أن المقطع ( 1 ) أنتج سورتين:
السَورة الأولى: وقد تجلّت بقولها:
« ما زلتَ هنا
تربط لي شريط حذائي
تُخيط لي ثوبي المطري
تحيط بيدك خصري
تصحبني إلى مدرستي
مازلت هنا
تقلب دفاتري
ترقب درجاتي»
ومهمة هذا المقطع_ المنتَج أصلا من مقطع أكبر_ التهيئة للدخول في السَورات اللاحقة، سورة الإدراك_ وهو منتج من المقطع ( 1 ) أيضا_ الذي سيؤسس لسورة نقد المدرك كما سيرد، الأمر الذي يحتّم على القراءة ملاحظة بناء النص على عدد من السورات: الطفولة، الإدراك، ثم يتعهد المقطع ( 2 ) بمهمة سورة الشك، وفضلا عما ذكرتُ من مهمات لسورة الطفولة فإنها تقوم بضخ ما هو أليف ومحبب وفعل أبوي باذخ في سورة الطفولة والإدراك لأنشاء ضرب من المساحات المتباعدة بينها وبين سورة الشك، فالتشديد على استمرار الأفعال: ما زلت، تربط، تخيط، تحيط، تصحب، تقلّب، ترقب؛ سعي لـتبريز ضدية المواقف، وحسب رأي أدونيس» شعريا، هناك انفصال بدئي بين اللغة كمنظومة رمزية، والواقع كمنظومة مادية ، وليس ثمة بينهما أية علامة من علامات التشابه[ … ] فلا تشابه بين اللغة كدال والواقع كمدلول. والعلاقة بينهما اصطلاحية، لا واقعية» وقد استمرّ هذا الدأب في سورة الإدراك وهي السورة الثانية التي أنتجها المقطع( 1 ).
سورة الإدراك.
ومهمة هذه السورة التحول من التقبل الطفولي البريء إلى إدراك المقولات والأفعال، وإلى توسيعها، ومن ثم الى اتخاذ مواقف من الذي حدث، والذي سيحدث، بل وقراءة المواقف اللاحقة من خلال إقامة ما يشبه المقارنة بين ما قاله الأب وفعله؛ وما سيحدث من انفصال في سورة نقد المدرك، وسورة الشك.
« ما زلتَ هنا
تحدثني عن مدينتي
عن الوطن
عن تلكم الألفة
عن عالم وردي
وأناس طيبين
عن شوارع
لا يشوبها التراب
وسماء لا يسكنها الضباب
عن أعمدة يعشقها النور
وجداول لا يلجها الجفاف
عن ملاذي الوحيد
ورقية الخوف
عن جنح ألوذ به
ساعة الوحشة
وراية أتشبث بها
لو قدر لي السقوط
عن وطن لا استجدي به
رغيف خبزي»
وكل ذلك بناء على بناء» تترتب عليه عدة مظاهر لم تكن معروفة في الشعر التقليدي، وذات صلة بتحقيق هوية القصيدة السردية، وأهمها تقريب فضاء اللغة من الواقع اليومي ونثره للمحكي» وتوسيع للسورات فتوسيع، إغراء بالتواصل فإغراء وتوسيع له، من خلال الإعطاء والمنع وصولا إلى الإمساك بالتجربة ومتلقيها على حد سواء. فضلا عن أنها بنيت على موضوع شخصي تجاوز الشخصي فيه حدوده إلى العام، « فالتشكيل البنائي لموضوع ما يفرض على البنية الشعرية مساراً يقود إلى ملاحظة المخزون الذاتي للموضوع سواء من جهة المتلقي أم من جهة المبدع الذي يضم هذا المخزون في تجربته، ومساراً يقود إلى ملاحظة التحولات الدلالية التي يتخذها هذا الموضوع داخل النص».
مجيبة بذلك إجابة نصية على سؤال: « هل يمكن التوفيق بين ما هو خاص وما هو عام بطريقة فنية ومقبولة أم أنها معادلة صعبة التحقق؟»
فالمهمة تكمن في اشراك المتلقي في سورات موضوع النص: سورة الطفولة، سورة الحيرة، نقد المدرك، سعيا لإشراكه في سورة الشك وهي الغاية الأساس التي بها تتجلى أهمية السورات السابقة.
سورة نقد المدرك.
سورة نقد المدرك من منتجات المقطع( 2 ) الذي أسست له السورات مارة الذكر، وقد تحولّت الشاعرة بواسطته من الأب الذي نعرف إلى الأب النصّي المستهدف في السورات كلها الذي سيبدو أكثر وضوحا واستهدافا ومحاكمة في سورة الحيرة، وسورة الشك لأن « الخطاب الذي يجري بين المتحاورين يتضمن أقوالا مضمرة تؤدي دورا أساسيا في تحقيق تواصل جدي وناجح، إذا ما كانت متطابقة: إما مع الواقع، أو مع معايير متفق عليها مسبقا، أو مع نوايا طرفي الخطاب، وقد فرق غرايس بين الكلام التقريري والكلام المضمر» قائلا: « يقصد من التكلم بشكل بيّن؛ أن نتحدث عن أمر ما، في حين يراد من التحدث بشكل مضمر؛ أن نوحي لأحد الأشخاص بالتفكير في أمر ما»
تقول:
حدثتَني حتى صدقتُك
باكية أنا اليوم
فلقد خدعتني
شوّهتَ ذاكرتي
فالوطن لم يعد ملاذا
والناس مختلفون
لم يعد إيماني مطلقا
أجلس القرفصاء
أنتظر القادم
أحاول أن أنهض من يأسي
أرمم عالم الطفولة
أعيد ترتيب الماضي
لعلي أجدك صادقا»
وما نقد المدرك هذا إلا ترسيخ للانفصال والتمييز بين السورات، وإلا مزيد من التحريض على الإيحاء والتفكير بما تفكّر به الشاعرة نصيّا، على نحو: شوّهتَ ذاكرتي/ فالوطن لم يعد ملاذا/ والناس مختلفون/ لم يعد إيماني مطلقا. مضيا إلى السورة الهدف/ سورة الشك.
سورة الحيرة والاختيار.
وفي هذه السورة تعدّ الأسطر:
فما زالت يدك
تشدّ على يد طفولتي
كلماتك تطبق على صدري
شكل من أشكال الانعتاق من سورة الطفولة، ولا شكّ بأن» أعظم مزايا الشعر لا انه يترفع عن لغة الكلام بل انه يرتفع بها فهو يبدأ منها , ثم يزيدها شحنا و بها تصل كلمات اللغة في الشعر إلى أقصى غناها وأتم قيمتها, وأقواها حملا للمعاني وشحنا للعواطف, واستدعاءا للتجارب» فقد شرعت وداد الواسطي ( بنسخ ) أو محو أفعال؛ وتأثير هذه المرحلة: تربط لي شريط / تخيط لي ثوبي المطري/ تصحبني../ تقلّب../ ترقب..) وترسيخ الضد منها: كلماتك تطبق على صدري. تقول مشرعة في سورة الاختيار:
« أنا بين عالم وردي ودعتُه
ورصيف مظلم خبرتُه
غادرته الأمنيات
يسكنه الألم
تطاول عليه الغموض»
سَورة الشك.
ما يحسب للشاعرة في هذه السورة نجاحها في التمكن من الموضوع، والتخلص من سطوة الأب من دون الإضرار بما تحفظ له من صور كما مرّ ذكره، حتى في آخر سطر شعري» خدعتني وأنت أبي « الذي شكّل مع العنوان قوسين، انحصر بينهما النص، وخرج بواسطته خروجاً قويا وضاربا وحاسما، نظرا لمجيئه في المقطع الخاص بسورة الشك، ليرسّخ المفتتحات مضيا باتجاه السَورة/ الصرخة، هذا الاحتدام المتنامي، الذي تمكنت وداد الواسطي من الامساك به، والهيمنة عليه؛ هو مبعث نجاحها في معالجة الموضوع، وحسم الصراع الطفولي والأبوي نصيّا لصالح شعريّة ما أنجزت، مضيا مرة أخرى إلى انجاز نصّ محكم وناقد. تقول في آخر سورة من سورات النص:
خدعتني
فلا جنة دخلتُ
ولا نار وطأت
متأرجحة أنا
بين إيمان فقدتُه
وشك يمدّ مخالبه
ينهشُ مني كلَّ شيء
خدعتني وأنت أبي»
فـــَ « ما زلت هنا « ؛ أول سطر شعري، وأول حجر القي في سورة، فعلى الرغم من ورود الفعل» ما زلت «_ الذي يفيد استمرار الحدث_ في سورة الطفولة، وسورة الادراك، وسورة نقد الادراك، وسورة الحيرة والاختيار ثلاث مرات؛ الا أنه كان مُؤشّر خطر ينذر بعدم استقرار الأفعال، وقد كان قولها في المرة الرابعة: ما زالت يدُك. دليلا على ذلك، فهو تحول من الكل( ما زلت هنا ) إلى الجزء( ما زالت يدك ) متبوعة بــ( تطبق على صدري) ثم المباشرة في( خدعتني) مستقلة بسطر شعري، وتعداد نقيض ما أثارته السورات السابقة: ( لا جنة/ ولا نار/ متأرجحة/ شك يمدّ مخالبه/ ينهش) سعيا إلى إعادة تشكيل الموزّع بين السورات في جملة واحدة، وسطر شعري مستقل واحد، شكّل العنوان ونهاية النص معا: خدعتني وأنت أبي!!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة