تراتيل يقظة متأخرة ..
محمود خيون
عرف الشعر على مر العصور بأنه واحة الموسيقى التي تفيض في رحابها المعاني العذاب والكلام الجميل..حتى انه صار سمة من سمات رجالات الدولة والسلاطين والمماليك الذين كانوا يجدون المتعة الحقيقية من بين مجموعة ملذاتهم وشهواتهم التي ليس لها حدود معينة…
ومن بين تلك الأزمنة وحتى ستينيات هذا القرن شهدت الساحة الثقافية والأدبية في عموم البلاد العربية ظهور موجة الشعر الحر أو النثر أو مايسمى شعر الحداثة ومن قبله( الشعر المركز) أو الخاطرة النثرية التي امتاز بها الكثير من شعراء امريكا اللاتينية والمملكة المتحدة امثال ريكاردور اليسير وغابريلا ستراك وامركتا فيوباث الذي هو رائد القصيدة الحسية في حينها من دون منازع ووصفوه النقاد بأنه مبدع الكلمات ناثر للصمت كاتب شفاف إذ تصبح القصيدة لديه انعكاسات للغة ذاتها وبها تفوق باث على زملائه في ذلك الوقت..
وعندنا ظهر السياب وعبد الوهاب البياتي وفوزي كريم وسعدي يوسف ونازك الملائكة ورشيد مجيد وعائد عزيز ومؤيد عبد الواحد وغيرهم..كما ظهر في البلاد العربية الكثير من الأسماء طومن أشهرها أدونيس الذي يعد رائد هذه الحركة ( متصلا بالحداثة الغربية في ثوبها ..وقف عليه من سمات الحداثة الغربية وراح الشعراء يلتفون من حوله..)….
وعلى الرغم من أن نكهة الشعر لاتكتمل إلا بالوزن والقافية والموسيقى لكننا نشعر بالذائقة الشعرية في واحات الشعر الحر أو مايسمى بالقصيدة الحديثة أو النثر…التي امتاز بها العديد من الشعراء في العراق ومنهم الشاعر جاسم العلي في ديوانه( ومض الأجنحة ) فأنت تشعر بموسيقاه الهادئة التي تنساب مع انسياب كلماته البسيطة التي تنم عن حبكة ودراية في كتابة هذا النوع من الشعر…فنحن نلمس ذلك من خلال نشيجه الصامت..
(لاتقطع صبر المسافات
لتعبر بربيعك للخريف
لا الموج يدنيك مني
ولاضفافي تستفيق )
في هذا المقطع نرى أن الشاعر جاسم العلي قد انحنى عن مساره في قصيدة النثر وبات يراعي الوزن والموسيقى ويأتي بشىء رائع من المعاني المليئة بالعذابات الروحية والمناجاة الخفية لعوالم الإنسان وهواحسه وخوفه من اللاشيء…ولقد أبدع الشاعر في هذا المقطع مثلما أبدع في غيره فنحن نشعر بذلك من خلال…
(مابال هذا الورد
لايبوح بأسرار الندى
وينهي مناسك
احلام الشفاه
بقبلة منتهى…)
وها هو يعيد لنا للمرة الثانية انينه وبلواه ومناجاته التي مافتئت تدور في حلقة الأحلام والعشق الممنوع الذي لايمكن لاحد البوح به أو الاشهار خشية الزمن ومن تسلط على اعتابه فصار مثل الوهم الذي يقدسه ملايين الفقراء والمعدمين..
(تحضننا الشوارع
وحلم الأرصفة
والمطر يحضر
على خدود الموج
صورة ظله
كمساءاتك
دجلة في دمي
وافواج النوارس )
ولربما يذكرنا الشاعر جاسم العلي بمعاناة الشاعر الروسي بوريس باسترناك الذي كان يعاني الامرين في الحياة والعشق والمعاناة التي ولدتها ظروف غامضة عاشها فيها ومات. أو بالكسندر بوشكين الذي تعاطف في شعره مع البسطاء والفقراء من عامة الناس….
ومما تقدم فأن كتابة قصيدة النثر ليس سهلة كما يعتقدها البعض ممن لايميلون لهذا النوع من الشعر….فهي تخضع لقوانين خاصة ومنفردة مثلما جعلها الكبار من الشعراء من جيل الستينيات والسبعينيات فوزي كريم وسعدي يوسف وغيرهم …حتى أنهم استطاعوا النهوض بها كقصيدة يمكن أن يتغنى بها القاريء العادي وهذا ماتجسد في مجمل قصائد ديوان الشاعر جاسم العلي( ومض الأجنحة )…
(من الف الف حكاية حب
ومعول وخوذة
من الف الف قبلة
ونيف رصاصة
خطت على تراب الموت
متوالية الاهات
ثم يردف ليردد كلمات أشبه باغنية البسالة التي كان يرددها الجنود الجنود….
مؤتز ابي
بلباس الموت
وسلاح الحب
عصي …و بنادق
زنازين. وخنادق
تتبعه ترنيمة امي
ترش عتبة الدار
وتفترش الأسحار..)
نرى أن( ومض الأجنحة ) للشاعر جاسم العلي جاءت بمثابة نوع جديد من الشعر الحر أو النثر إذ تمتاز القصائد بايحائية موسيقية ذات وقع خاص زادتها رصانة وشفافية وجمالية….