عصام كاظم جري
جاء في الصّورة الشعرية للحرب/ العصر الجاهلي . للدكتور كامل عبد ربه .
(صّرح الشّعراء بالنتيجة المؤلمة التي تتركها الحرب، فعبّروا عن ذلك بأصدق تعبير عندما اقترنت في تفكيرهم بالدمار، وأهلكت أقوامهم وشردتهم، وذلك ما عبّر عنه الشاعر: عبيد بن الأبرص في قوله:
فأذهبهم ما أذهب الناس قبلهم / ضراس الحروب والمنايا العواقب.
بيد أنه يكشف عن صراعه النفسي الذي أتجه إلى الموازنة، بين الوقوف إلى جانب قبيلته ومساندتها في حروبها دفعا للظلم وانتصافا للكرامة، وبين الرغبة الملحة في إطفاء نار الحرب وشرورها وعدم إيقادها إلا للظلم المتعدي حيث يقول:
وإني لأطفي الحرب بعد شبوبها / وقد وقدت للغي في كل موقد.
فأوقدتها للظلم المصطلى بها / إذا لم يزعه رأيه عن التردد .
فالحرب إذاَ / خيار قاس يلجأ إليه العربي لإدراكه أن أولها شكوى وأوسطها نجوى وأخرها بلوى. حتى اقترنت في تفكيرهم بصورة قبيحة، منها صورة مرض الجرب المعدي الذي لا يشفى كما في قول أحدهم:
والحرب يلحق فيها الكارهون كما / تدنو الصّحاح من الجربى فتعديها .
ويلخص الشاعر الحارث بن عباد البكري الذي أجبرته أخيرا ( تغلب) على المشاركة في حرب البسوس إلى تقدير فداحة الحرب فذّكر بآثارها القاسية التي أنهكت القبيلتين، فلمّح إلى رفضه الحرب حلاََ بين أبناء العمومة، لأنهم لا يجنون منها سوى التفرقة والضعف، فأودعها في صورة جمال أجهدها التعب الثقيل ) .
ومن خلال الاستقراء الدقيق للنصوص في المجموعة الشعرية : (أغاني الصّموت ) للشاعر ولاء الصّواف، الصادرة سنة ٢٠١٨ ، عن دار الصّواف، الطبعة الأولى، كرّس الشاعر في قصائده ثيمة الحرب وخرابها، بتوعية الآخر / القارئ/ المتلقي … الخ ، وكشف مخاطرها الكارثية، تلك الحروب العبثية التي تتسلّل أضرارها إلى أجسادنا بغير وجه حق، كشف الشاعر عن تجربة الحروب القاسية التي عاشها إنسانه، والتي جسّدها بصور شعرية مرارا وتكرارا، صورا عميقة ومؤلمة مؤكدا بذلك ثيمته، بأحداث لا تبارح مخيلته، وأوقاته وأخذ الشاعر يعمّق الحس الإنساني لدى الآخر بالدعوة إلى السلام والحياة مرة ، ونبذ الحروب مرة أخرى، ونقرأ في صفحة :(٤٦ ) من قصيدة : (متهم بالهديل ) :
للغبش المرشوش على السطوح
للحروب التي مرت من هنا
ونثرت قتلاها على عتبات البيوت.
ونقرأ في صفحة : ( ٥٢ ) من قصيدة : (إعدام عود )
بين أول جرح
وأخر حرب
ثمة أغنية
لم يدركها الصباح
فكتم سرها الرواة ..
رصّد بعمق، رصّد ثاقب للحقيقة، حقيقة الرماد التي تخلفه الحروب، فهي تكشف عن قناعها المتهالك، تكشف عن الجرح واللون : (الحرب زرقاء) صفحة (٥٤ ). إذ أنها اللون القاتم، كشف عن الاحباطات، عن رائحة الموت أمام البيوت، عن أجسادنا الناحلة أمام أدوات الحرب كـ : (الكواتم . الجمر . الرصاص . الغبار )
كشف عن الإقامة الجبرية ، عن الثقوب، كشف عن أحلامنا العارية، عن الرمل وهو يعتلي وجوه الخيول، عن عطش الحرب ومنفاها وخطاها وارتوائها . نعم أنها لا تمنح الجرح أي أمنية. حيث نقرأ: (وفمي واسع كالدروب، يفيض خطى، فترتوي الحرب ) صفحة (٧٤ )
للحرب هنا في : ( أغاني الصّموت ) ثيمة وحكاية مستقى من سيرة جيل، جيل كامل، كتبها الشاعر وجعلها تسهم في كشف مقدماتها ونتائجها، فهو أحد شهودها، الشاهد الذي عاش احتفالاتها وانكساراتها، انكسارات أرواحنا التي لا تهدا، لذا قرّر الشاعر أنْ يأخذ القارئ إلى الزاوية التي نرى من خلالها الألم المغروس في شجرة الروح، وختم مجموعته الشعرية في قصيدته (أيتها التي لا اسم لها غير سماواتي) صفحة (٨١)
بالطلب المختلف والمتعدد الذي يراد به الالتفات إلى المتكلم من جهة والالتماس من جهة أخرى حيث نقرأ:
يا ظلي الساقط على الماء
خذني إليك
بصباي الذي تفيأ ظل الحروب .
بعد أنْ بدأ مجموعته الشعرية بقصيدة (أرجوحتي): (صفحة ٧)
منذ خمسين قطافا أو يزيد
أهزها مرة وصوت الحرب يهزها ثانية .
تأخذني للغيم
وتعيدني إلى الأرض الحرام ..
الشاعر هو ذلك الكائن، الذي يمتلك قدرا واسعا من المعرفيّات العديدة، وهو الكاشف والمنتج والمحرّض والمعبّر عن آراء الآخرين، معبّرا عن طموحاتهم وتطلعاتهم وانكساراتهم وحروبهم الخاسرة، لأنه جزء لا يتجزأ من المحيط الذي يعيش، وهو لا يعالج مشكلاتهم وهمومهم، ولا يحقق تطلعاتهم، ولكن باستطاعته أنْ يصلَ بتلك الانكسارات والهموم والتطلعات إلى الأخر / القارئ/ المتلقي .. بغية التوعية والكشف، توعية القارئ في كشف المسكوت عنه والمستور، وكشف المخاطر التي تلحق بنا، كشف أزمات بشرية تقع بفعل فاعل ولا طائل منها. أخيرا، لقد نجح الشاعر (ولاء الصّواف) في توّظيف فكرة الحرب . وهي الموضوع المهيمن / والمركزي في أغلب قصائد المجموعة بالرغم من أنْ فكرة الكتابة عن انكسارات الحرب وهزائمنا ليست بالجديدة.