علي لفته سعيد*
الشعر ليس قولًا يمكن أن يوضع على روقةٍ وتشكيل مقاطعه على الأسطر أو بينها، بل هو روحٌ تتنفّس وتنبض بالحروف.. والشعر وحده لا تكتمل صورته دون شاعرية تنطق بالتأويلات والقصديات والمعاني التي تدهش المتلقّي.. وهذه الدهشة لا تعتمد على كمية الكتابة الموازية للعتبات والمتداخل معها أو التي يمكن من خلالها استنطاق الشعر لينتج شاعرية، بل هي كذلك التفرد فيما تكتب والتوازي لمن كتب والاستبيان عمّن كتب، على اعتبار إن الشعر لغةٌ وكما قال بول فاليري إن الشعر (لغة داخل لغة) وهو تفسير لما يمكن أن يكون في محاولة التفرّد على الأقل في تكوين الصورة الشعرية المنتجة للشاعرية.. وقد أوضحنا في كتابنا (بنية الكتابة في قصيدة النثر- أساليب النصّ ومحمولات التأويل) ونحن نحاول فهم لعبة اللغة على أنها (التخليق الدلالي لكثافة هذه الجملة البسيطة التكوين العميقة المغزى تعطي مفهومًا انزياحيًا خارجًا من اللغة الإشارية، لتكون دالًّا ودليلًا بين الصوت, قراءة المفردة, وبين الصورة المدونة, رسم المفردة.. لأن الشعر عملية إعادة خلق الأشياء وتكوينها من جديد على وفق نظرةٍ عصرية لمفهومها الحديث. وهذا ما يبحث عنه المتلقّي عندما يتوغّل في النصّ بحثًا عمّا قام به الشاعر من (عملية) قادت التكوين وحوّلته إلى مادّةٍ فيزياويةٍ تحلّق في عالم الخيال).
من هنا يمكن القول إن مجموعة الشاعر بوزيان موساوي ( صاحبة الشال الأزرق ) قد لا تحمل الفرادة الشعرية لكنها متفرّدة من حيث التدوين، ومن حيث القدرة على جعل الشعر لغةً داخل لغةٍ بحسب مقولة فاليري.. وهي تحتاج الى متلقٍّ يعرف ماهي هذه الجملة مثلما يعرف ما يراد من الشعر وما أراد الشاعر في عملية التبويب الشعري أو في صياغة الجملة الشعرية ضمن ماهية المفردة الواحدة في السطر الواحد، لأن الشعر على العكس من السرد يعتمد على المفردة في حين يعتمد السرد على الجمل المرتبطة، والشاعر قد مزج بين خاصيتي المفردة والجملة في بنائه الشعري في هذه المجموعة التي تنطلق بنيتها الكتابية التي نقصد فيها عملية التدوين من العنوان كعتبةٍ أولى مرصودة لمعرفة كنه المعنى وما يختفي وراءها ومن يختفي في روح دلالتها، خاصة وإن مفردة الشال تعني الكثير الذي يمكن أن يكون مرادفًا للعشق والحبّ والغزل والحياة والجمال، مثلما تكون مفردة الأزرق غير عائمةٍ في كلّياتها اللونية، بل هي تعني الصفاء والسماء والروح التي تتداخل مع مفهوم الكلمة الأولى ( صاحبة ) لتكوين تلك اللقطة الأولى، التي ستكون هي المنطقة العلوية الكبيرة التي تطلّ على العناوين الداخلة في بينة النصوص التي سيتم اكتشاف على إنها عبارة عن رسائل معنونة لـ ( صاحبة ) هذا الشال الذي يضفي على طول المجموعة الكثير من المعاني والتفسيرات في محاولة لتفسر هذه الرسائل سواء عن طريق الحب أو الاجتماع وحتى السياسة سواء شاء الكاتب أو لم يشأ، لكنها أيّ الرسائل التي تمتد الى 32 رسالة. تقع على عاتقها توزيع المهام ومن ثم جمعها في المحصلة النهائية.
إن هذه الرسائل لا يمكن قراءتها على إنها ملمحٌ واحد، بل هي طرق تتوازى وتتقاطع لكنها تلتقي وتبدأ من حيث البداية الأولى للخلق:
إلى صاحبة الشال الأزرق رقم 1
(يا صاحبة الشال الأزرق متى التقينا؟…
هو منذ بدء التكوين كُتب التلاقي.. في انتظار اللقاء
قرب نهر أزرق
هل هو النيل؟ أم دجلة؟ أم الفرات؟.. أم كان أمّ الربيع؟…
كل أنهارنا زرقاء
حتى التي مزجنا مياهها بعرقنا
حتى التي خُضّب أزرقها بلون دمائنا
حتى التي تنكّرت لها من سنين أمطار سمائنا
حتى التي حملت زوارقنا نحو المجهول من أيامنا )
وتنتهي من حيث الوجود الذاتي لهذه الـ ( الصاحبة ) التي يسعى الى فكّ رموزها على الأقل من المفهوم الذاتي الانفرادي الذي يعشق الدنيا والحياة والبحث عن فرادة هذه البحث عن طريق الجملة الشعرية لكي تحمل شاعريتها:
إلى صاحبة الشال الأزرق رقم 32
بكل تفاصيلك… فقط هي أنتِ.
(كم حدثتني ابتسامتك…
عن كبرياء يخشى الانكسار.
و كم خاطبني جسدك…
عن طقوس تراتيل انحدار.
و كم ردد صدى انينك…)
إن ما يمكن تسجيله على طريقة التدوين إن الشاعر لا يسعى الى جعل موسيقاه هي الآخذة للبّ المتلقّي، رغم اهتمامه بالشكل الخارجي للسطر الشعري سواء الذي يريده متساوي الأسطر بكلماته أو المتقطّع كقصيدة نثرٍ متفاعلةٍ مع المهمة والهم الذي يعيشه الشاعر / المنتج.. خاصة وإنه لا ينفك عن مخاطبة المرسل لها والكاشف عن حقائقها وحقيقتها ضمن النصوص الموزعة بين الرسائل ( 32 ) حتى لا تكاد تكون هناك رسالة لا يستخدم فيها ( يا ) المخاطب والمنادى إليها والمعنية والسامعة والمتلقّيةـ كأنه يقول لها أنتٍ المقصودة، فهو يتحدّث عن امرأة تمثل الحياة والكون والحرية والجمال والبلاد والروح والمرأة بعنوانها الأنثوي.. ولهذا نجد إن تكرارية التلفّظ بالتوجيه المخاطب لها قد لا يولّد ذات المعنى، لكنه يولّد التفرّد في صياغة الجملة المقطعة والمتواصلة بين نقطتين وتوقّفين بالمعنى الاستمرارية.. وهو بهذا يحقّق الاختلاف مع الشاعر الآخر في نصوصه هذه التي تحمل متواليةً موضوعيةً مثلما تحمل متوالية ديمومة الفكرة وتحمل متوالية الاصغاء الى ذات الوقع الموسيقى للمعنى والتأويل.. وقد يجنح في الكثير من الأحيان الى الإخبار عن المعنى، لكنه إخبارٌ مرتبطٌ بتلك الحوارية المنمّقة التي يشكلّها أو يوزّع فوقها ما يعتقد إنها عذب المفردة في شكلها الخارجي وبالتالي تحميل هذه الحوارية شكلها الحداثوي.. بمعنى إن الجملة الشعرية يريدها أن ترتدي ثوبها التأويلي من خلال بنائها السردي ومنطقها الشعري، وما هو ما يعني البحث عن شكل ٍجديدٍ أو لا يبتعد عن التجنيس الشعري لكنه بثوبٍ تدويني غير متعارفٍ عليه، أو إن من يخوضون مثل هذه التجربة ليس لهم الإمكانية في المطاولة، أو إن الأمر فيه خطورة على المعنى الشعري والثلم من شاعرية النص.. ولهذا نجد إن هذه المناجاة والمخاطبات التي تحتويها وتضمها الرسائل تحمل في روحها البعد الفلسفي لما هو ظاهر من فعلٍ رومانسي يحاول التغلغل من خلالها الى كياناتٍ آهلةٍ بالمعنى وغير مبتعدةٍ عن التوصيف وتحمل شكلها المتقطّع وليس المتقاطع.. فهذه الانتقالات الموزعة بين رومانسية الشكل وفلسفة المعنى وطريقة البناء أنتج لها مستوىً تحليليًا لماهي ما يريده الشاعر / المنتج، ليوصله الى المتلقّي/ المستهلك للنص:
إلى صاحبة الشال الأزرق رقم 4
(هل بردتْ قهوتنا؟
لك أن تُميّزي.. يا أنت يا.. بين أَخْيل، و.. مُحْبَق
الرّوضة لا تشبه الجنّة، فالجنة من وجنتيك تُبْرق
لك أن تُميّزي.. يا أنت يا.. بين مغرم، و.. أحمق
النشوة لا تشبه المرأة، فالمرأة من صُلبك تشرق
… نخبك.. أشرب.)
إن مراقبة عملية التدوين تكشف لنا طريقة الكتابة لمقطعه الشعري الذي قد ينتهي بقافيةٍ معينةٍ لتقترب من بنائيتها في الشكل العمودي حتى انه يستخدم قافيتين في ذات المقطع:
إلى صاحبة الشال الأزرق. رقم 28-
(يُقال: ملاك خطّ في لوْح، قبل البدء، قدرنا
و انتهى…
و قلتُ: هاتِ أزرق عينيك نرسمً مصيرنا
وَ قْتَها..
و قلتِ: نكتبُ قصيدة حبّ بوشائج وَترِنا
خلالها..
نُلوّنُ سماء الليل بالأزرق حتى يَشِعُّ نَهارنا
و نجمها..)
أو تنتهي بحرفٍ له موسيقى داخلية لتدخل في الجنس النثري المفعل عموديًا.. أو إنه يخلق مساحات للتفكير أو إملاء ما يمكن أن يوازي المنطق للنصّ في محاولة لإيجاد الصلة بين الرومانسية الظاهرة والمستوى الفلسفي المتفاعل مع الغاية التي يصبوا إليها النص:
إلى صاحبة الشال الأزرق رقم 9
يا صاحبة الشال الأزرق متى التقينا؟…(
هو منذ بدء التكوين كُتب التلاقي.. في انتظار اللقاء
ننسى نهرنا
ننسى جبلنا
ننسى بيتنا
ننسى معبدنا
ننسى تاريخنا
…………………. وحده ممكن حلمنا
………………… وحده ممكن حبنا
……………… ما دام الحلم لا يزال ممكنا.)
إن المجموعة الشعرية التي تتكّون من عدة مقاطع يراد لها أن تكون نصًا واحدًا، يحمل في البعد التفاعلي ما هو منطق التحليل وفلسفة القصد، وما بين الشكل الذي يرسمه الشاعر لإنتاج شبكة علاقاتٍ تربط المقاطع أو الرسائل أو الهدف المراد الوصول إليه.