شكيب كاظم
أرى أن لكل مؤلِف مؤلَفاً، يكون واسطة العقد بين مؤلفاته وهو الذي سيجلب له خلوداً، أو بعض خلود ذكر، وعلى الرغم من موسوعية الأستاذ جعفر الخليلي، وضربه بسهم وافر في مناح عديدة في عوالم البحث والكتابة، حتى أن عدد مؤلفاته نافت على الأربعين كتاباً، وبلغ من موسوعيته وتشعبه أن كتب حتى في التمر وأنواعه!
لكن سيبقيه في ذاكرة القراء والباحثين، كتابهُ الذي تابعنا أخباره منذ منتصف عقد الستينات من القرن العشرين، وأعني به (موسوعة العتبات المقدسة) الذي صدرت طبعتُه الأولى في بيروت عن دار التعارف، ثم تولت مؤسسة الأعلمي طبعه ثانية، وهذا الكتاب الموسوعي الضخم شاركه في تأليفه عدد من الباحثين منهم الدكتور حسين أمين والعلامة مصطفى جواد، الذي أسهم في الأجراء الأُوَل من أقسام النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء فضلاً عن الجزء الثاني من قسم الكاظمين وعنوانه (السلك الناظم لدفناء مشهد الكاظم) هذه الموسوعة التي ألفها وجمع بين بحوثها وعلق عليها الراحل الكبير جعفر الخليلي، كانت فكرة طُرحت، لاقت هوىً في نفسه وتولى تنفيذها، لتصدر في أقسام عديدة غطت غالب المشاهد المقدسة في العالم العربي وخارجه.
ولقد أحس الخليلي بجسامة العمل الذي هو مُقْدِمٌ عليه، فكتب في مقدمة الجزء الأول الذي حمل عنوان (المدخل) وفيه ترجمة وافيةٌ لعوالم الموسوعات أو الانسكلوبيديا في اللغة الإنكليزية، وتقع في أربعمئة وثماني صفحات، قال الخليلي (أما إلى أي مدى سيحالفنا التوفيق، وكم هي (الأقسام) التي نستطيع ان نُخرِجها، وكم هي أجزاء كل قسم، مما نستطيع ان نجمعه وندفع به إلى المطبعة، فإن علم ذلك عند الله تعالى، وحسبنا أننا أقدمنا على مشروع خطير مهيب ليس من الهين النهوض به من حيث البحث والتأليف والإنفاق).
وقد صدرت هذه الموسوعة الفخمة بـ (12) أثني عشر مجلداً، فكان هناك قسم حمل عنوان مكة المكرمة، وآخر عن المدينة المنورة وثالث عن القدس، والنجف وكربلاء والكاظمين، وخراسان، واحتوى المجلد الثاني عشر وهو آخر الأجزاء قسم سامراء.
وإذ أصدر الجليلي عدداً من الصحف سواء في النجف أم في بغداد، لكن جريدة (الهاتف) الأسبوعية التي كانت تصدر صباح كل يوم جمعة، وأهتمت بالأدب والقصة، وعمَرَت طويلاً، لتذكرنا برصيفاتها المصريات مثل (الرسالة) و(الثقافة) و(الكاتب المصري) و(وأبوللو) فضلاً عن مجلات ريادية صدرت في بغداد مثل (الثقافة الجديدة) و(الفكر الحديث) التي أصدرها الفنان الرائد جميل حمودي، و(الوقت الضائع) و(الأسبوع) التي تولى إصدارها الأديب خالص عزمي، فضلاً عن (الكاتب العربي).
ولقد كتب الأستاذ الخليلي، القصة القصيرة، وهي فن جديد على الثقافة العراقية يومذاك، تولى بواكيره الأولى محمود أحمد السيد، ليواصل الدرب بعده ذو النون أيوب، وعبد المجيد لطفي، وكانت أقرب إلى المقال، ولاسيما عند أيوب وخلف شوقي الداودي، وقد أطلق بعض النقاد على هذا اللون القصصي اسم (المقاصة) أي المقالة القصة، أو القصة المقالة، لذا فإن الخليلي، كما يقول الناقد باسم عبد الحميد حمودي، في كتابه (رحلة مع القصة العراقية) المطبوع عام 1980 (لم يتمكن من تقديم أقصوصة مكتملة فنياً قدر ما قدم من حكايات كثيرة في إطار غير ملتزم بشكل القصة الكلاسي تماماً)، ويقصد الأستاذ باسم هنا القصة التي كان كتبها الأديب الفرنسي جي. دي. موباسان والتي استحوذت على اهتمام قصاصي تلك السنوات – أي سنوات الثلاثين من القرن العشرين-.
لقد عقد الأستاذ جعفر الخليلي، صداقات واسعة مع العديد من أدباء وباحثي العراق والوطن العربي إذ كان مقر جريدة (الهاتف) وما سبقها من صحف، مثابة ومنتدى يؤمه أصدقاؤه، هو الذي عرف بدماثة الخلق، وشغفه بالفكاهة والطرفة، وقد ترجم للعديد من هؤلاء في أكثر من كتاب ومنها كتابه (هكذا عَرِفتُهم) ليعيد هذا الكتاب إلى الذاكرة، كتباً مماثلة منها كتاب (أساتذتي) لأستاذي الدكتور علي جواد الطاهر- رحمه الله- فضلاً عن كتاب لعباس محمود العقاد عنوانه (رجال عَرِفتُهم) قدم فيه صوراً قلمية للمنفلوطي والزهاوي ومي زيادة وأحمد لطفي السيد، الذي يلقبه المصريون بـ (أستاذ الجيل) والمصريون مولعون بإطلاق النعوت والتسميات، وكتاب آخر للأديب المصري الموسوعي الكبير وديع فلسطين – أمد الله في عمره- عنوانه (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره).
قبل ان تشتد حملات التهجير منتصف سنة 1980، غادر الخليلي العراق لواذا، نحو أرض الله الواسعة، ليلاقي وجه ربه في بلاد الغربة القسرية ولله درُ الشيخ الوائلي الذي عرفناه شاعراً مصقعاً يوم أعتلى منصة قاعة الملك فيصل الثاني بباب المعظم (الشعب حالياً) ليقرأ قصيدته العصماء الرائعة في مهرجان الشعر السادس المنعقد ببغداد العز في 22/ من شباط/ 1965 ومطلعها
لغد سخى الفتح ما نتجمع – ومدى كريم العيش ما نتوقع
هذي رحاب القدس مذ ترنحت – صرعى إلى زعقاتنا تتسمع
عشرون كفاً حرة ما أوقفت – مهوى يد مغلولة إذ تصفع
فالمجد يحتقر الجبان لأنه- شَرِب الصدى وعلى يديه المنبع.
أقول لله در الوائلي أحمد مؤبناً الخليلي في غربته.
طواك الردى سفراً فعش في كتابه كبير المعاني رائعاً كل ما به
لا تخشى ان يغتالك الموت فكرة فليس يموت الفكر رغم احتجابه
تأبين الوائلي هذا يعيد لذاكرتنا لوعة الجواهري الكبير مؤبنا الرصافي:
لغز الحياة وحيرةُ الألباب- ان يستحيل الفكر محضَ تراب
فيم التحايل بالخلود – وملهم لحفيرة ومفكر لتباب
من منكم رغم الحياة وعبئها- لم يحتسب للموت الف حساب
ذئب ترصدني وفي أنيابه- دم أخوتي وأحبتي وصحابي