د. حسن الجنابي
سمح تغيير نظام الحكم الصدامي في عام 2003 بتسليط الضوء على الكارثة الإنسانية والبيئية التي حلت بمناطق الأهوار وسكانها إثر تجفيفها المتعمد من قبل النظام وكشف هول الجريمة، انسانيا وبيئيا واقتصاديا. لكن الخراب الشامل للبلاد وتدمير المدن والحواضر والموانئ والمحطات، وسنوات المقاطعة الاقتصادية، وحجم التعسف والانتهاكات واعداد القتلى في الحروب والسجون، والتهجير ومآسي استعمال السلاح الكيمياوي ودراما الاحتلال وغير ذلك «خفف» من هول جريمة التجفيف، خاصة وان السلطة السابقة كانت قد كثفت برامج امتهان انسانية سكان الاهوار من المعدان وتحشيد الرأي العام ضدهم، وتعمدت اذلالهم ونعتهم باوصاف مهينة، خلقت معها موقفا عاما هو، في احسن الاحوال، غير مكترث بمصير الاهوار وسكانها، وقد شمل عدم الاكتراث واليأس والعجز عن فعل اي شيء سكان الاهوار انفسهم، واعتقد ان الاصدقاء، الذين رافقوني او استعنت بهم حينها في زيارة المناطق المنكوبة بالتجفيف، بهدف البدء بمشاريع واجراءات اعادة انعاش الاهوار ومراقبة الاغمار، اننا كنا «غرباء» نتحدث بحماسة عن حطام واقع لم يعد يكترث به احد من ضحاياه.
محنة برامج الانعاش
بعد اسقاط النظام الصدامي عام 2003 اتيحت الفرصة للحكومة الجديدة للعمل على اعادة انعاش الاهوار ومعالجة آثار التجفيف، لكن هول الكارثة وهشاشة الوضع العام، سياسيا وامنيا واقتصاديا واجتماعيا، مضافا لها قلة المعرفة والخبرة وتشتتها، اسهم بعرقلة تطبيق النوايا الصادقة لدى النظام الجديد وتحويلها الى برامج انعاش حقيقية للاهوار، بمعنى استعادة وضعها شبه الطبيعي قدر الامكان مع تقديم خدمات تهدف الى تحقيق حالة من الاستقرار للسكان، وتشجيع الانشطة الاقتصادية المرتبطة مباشرة بالاهوار، كالصيد والالبان والانتاج الحيواني والمواد الاولية الضرورية للحياة وغيرها. فبعد حماسة العامين الاول والثاني بعد التغيير، واللذين شهدا عودة آلاف النازحين واللاجئين والمشردين الى اماكنهم في الاهوار ومحيطها، ووضع اسس علمية واولويات ومشاريع مدروسة، وتأسيس مركز مختص لمتابعة الانعاش، انتهى الامر الى متاهات ووزارة دولة بلا رصيد معرفي او مهني او فني، وصراعات وخلافات وصرفيات في غير محلها، ومشاريع ثانوية ووجاهات وترضيات، ضاعت معها بوصلة العمل باتجاه تحقيق العدالة البيئية والاجتماعية، وبقي نظام الاهوار نظاما هشا غير قابل للاستدامة، واعتمدت قرارات مرتجلة ابقت الاهوار حبيسة اجراءات تشغيلية لا تمت بصلة الى الوعي البيئي المعاصر او التنوع الاحيائي، واهملت قضايا مصيرية مثل حصول المواطنين على مايكفيهم من الغذاء، وتوفير مستلزمات معيشتهم واحترام تقاليدهم، وغير ذلك من الخدمات الكبرى التي تقدمها الاهوار لسكانها وسكان المدن والقرى المحيطة بها، من دون ذكر الابعاد التاريخية والثقافية والانثروبولجية والسوسيولوجية والايكولوجية لمنطقة رطبة تغطيها المياه كانت مساحتها تبلغ مرة ونصف مرة بقدر مساحة لبنان، وتقع على اطراف الصحارى الكبرى القاسية، وكانت قد شهدت نشوء اولى الحضارات الانسانية، ومازالت تمثل محطة كبرى في طريق التطور الانساني المعاصر، خاصة في بواكيره الاولى، كالاستقرار والهندسة والكتابة والصيد وتقاليد العبادة والملاحم وغيرها، وهي منطقة متفردة هيدرولوجيا وايكولوجيا ولا مثيل لها في غرب القارة الاسيوية.
ايرادات الفرات
يمكن وصف حال الاهوار اليوم بأنه كارثي بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى، خاصة بجوانبه الانسانية، فالجفاف دمر، ويدمر، وسائل عيش عشرات الآلاف من العائلات. لأن الماء هو العنصر الاوحد الذي يديم الحياة وينعشها في الاهوار، ويحفظ كرامة السكان، ويمنعهم من التسول والجوع والنزوح، وقد اصبح شحيحا وبصورة مفاجئة، وتمثل هذه الشحة تهديدا مباشرا لتجمعات سكانية وقرى يسكنها مواطنون فقراء عزل من وسائل الحياة الاخرى، لا يملكون سوى ارادتهم في الحياة وزوارق عتيقة وجواميس تبقيهم على قيد الحياة الكريمة، يعيشون يومهم ويرتبط مصيرهم بقرارات يتخذها غيرهم من دون علمهم، وما هو اكثر حزنا وايلاما في وضعهم الحالي، انه لابديل لديهم للنزوح اليه من اماكنهم الحالية، كما حصل في اثناء تجفيف الاهوار في ظل النظام السابق، حيث لجأوا الى مزارع ومبازل الرضوانية والاسحاقي والمسيب واليوسفية وفروع وقنوات المشاريع الاخرى المتفرعة من الفرات ودجلة. فاليوم اضافة الى خراب وجرائم الارهاب في تلك المناطق، فان ايرادات نهر الفرات تقلصت الى حد قد لا تؤمّن معه مياه الشرب في مقبل الايام، فضلا عن اسناد المسطحات المائية والاهوار التي تمثل لهم خط الحياة الاوحد. فالظروف المناخية القاسية والاحترار المناخي المتمثل بارتفاع معدل درجات حرارة سطح الارض، والزحف الصحراوي السرطاني القادم الى اعماق وادي الرافدين، بسبب انعدام الفيضانات الربيعية المعهودة للنهرين، الناتج اساسا عن انشاء سلسلة السدود الكبرى في تركيا وسوريا والعراق، وتقلص الغطاء الاخضر، اضافة الى انتشار الفقر وانعدام امكانيات المقاومة لدى السكان للبقاء في موطنهم، نتيجة انعدام البرامج الاغاثية الساندة من مياه ومأوى ومأكل ورعاية صحية ومشاريع للحفاظ على الثروة الحيوانية جعلت المنطقة برمتها تحتضر اقتصاديا.
إرباك في ادارة النظام المائي
من المفارقات المؤلمة في الاهوار هذا العام، اضافة الى الضغوطات الهيدرولوجية والمناخية التي تتعرض لها، هي ان جفافها ناتج عن اجراءات تشغيلية وظروف قاسية يمر بها بلدنا، تزامنت فيها شحة الاطلاقات المائية من الجانب التركي منذ آذار الماضي، حيث اعلمنا الجانب التركي في اثناء زيارتنا الى انقرة في تموز الماضي، انه لجأ الى تقليل الاطلاقات على نهر الفرات نتيجة لخلل في توليد الطاقة الكهرومائية في سد كيبان بسبب خلافات مع الشركة المسؤولة، مع ظروف ضاغطة في نهر الفرات ادت الى افراغ خزين سد حديثة، مضاف اليها سيطرة داعش على سدتي الرمادي والفلوجة التي اربكت الادارة المعتادة للنظام المائي في حوض الفرات.
لاشك فان الاكثر خطورة هو سيطرة داعش على سد الطبقة السوري على الفرات، وهو سد يتسع لتخزين (12) مليار متر مكعب، مما يعوق التأكد من وصول الاطلاقات المائية التركية الى العراق، وهي التي وعدنا بها في اثناء زيارة وفدنا برئاسة السيد وزير الخارجية العراقي حينها. لذلك اعتقد ان اسباب الشحة الكارثية في الفرات، وبالتالي في الاهوار، هي اسباب ناشئة عن قرارات اتخذت من قبل اشخاص وليس جفافا طبيعيا، بدليل ان السنة المائية هذا العام تقترب، من حيث تساقط الثلوج والامطار، من اي سنة اعتيادية هيدرولوجيا.
معالجة.. لجفاف مدمر
بالنسبة للاهوار فان الموسم الصيفي قاتل من دون ادنى شك، وان كنا محظوظين فدعنا نأمل بموسم شتوي رطب، ولكن علينا ان نعالج آثار هذا الجفاف المدمر، ويمكنني هنا ايراد بعض المقترحات التي اعتقد انها مناسبة للتعاطي بنحو عاجل مع كارثة الجفاف في الاهوار عسى ان يؤخذ بها وتستكمل بمقترحات اخرى، واوجزها بما يلي:
ـ تكثيف الجهد لتقديم المساعدات الانسانية لسكان الاهوار المتضررين عن طريق تفعيل برامج اغاثية هادفة الى انقاذ السكان المحليين وثروتهم الحيوانية.
ـ تخصيص مساعدات اغاثية فورية لسكان الاهوار تتضمن الاغذية والمساعدات الطبية ومياه الشرب ووسائل الاحتفاظ بالثروة الحيوانية.
ـ اشراك المنظمات الدولية وخاصة برنامج الامم المتحدة البيئي (اليونيب) وبرنامج الامم المتحدة الانمائي (يو ان دي بي) ومنظمة الاغذية والزراعة للامم المتحدة (فاو) وبرنامج الاغذية العالمي (دبليو اف بي) على تقديم المساعدات الانسانية والاغاثية للمنطقة.
ـ العمل الفوري، وقدر الامكان، من اجل تأمين ايرادات مائية كافية للاهوار ودعم النقص في ايرادات نهر الفرات من نهر دجلة ان امكن لانقاذ الاهوار والثروة الحيوانية والعمل على حماية استقرار القرى والتجمعات السكانية في منطقة الاهوار.
ـ استمرار العمل والضغط على جيران العراق للمساعدة في التخفيف من الوضع الانساني الكارثي السائد حاليا في الاهوار، وتوضيح مسؤوليتهم في الامر من منطلق الحرص على علاقات متكافئة بين البلدان المتشاطئة.
* وزير الموارد المائية