القصة

بدر سوكا

أَن تُحملِق في النّهر الّذي يصنعه الزّمن والماء
وأن تتذكّر أنّ الزمن ذاته نهرٌ آخر
خ. ل. بورخيس
كان كتابًا نسيتُ أنّي أملِكه، فقد ظلّ في بطْنِ مكتبتي لسنواتٍ. ربّما حملةُ التّنظيف الأخيرة هي الّتي أعادتْه للواجهة. لمْ يشجّعني عنوانه قَطّ على قراءتِه، كان يوحي بإطنابٍ ومللٍ كبيريْن. ناهيك عنْ صورة الغِلاف؛ لوحةٌ لامرأةٍ تُعلِّق أطنانًا من الحليّ، ولها تسريحةُ شعرٍ غريبةٍ تُظهِرها كميدوسا، ومن ورائها يُطِلّ قمرٌ أسودُ. اِستغربتُ، فما الّذي يجمع بين صورة أُسطوريّة، وكتابٍ بعنوان ” قِصصٌ من أمريكا اللّاتينيّة”؟ لهذا قرّرتُ أن أكتشِف الأمر بنفسي.
اِلتهمتُ عِدّة قِصص بسرعةٍ لا أذكرُ آخر مرّة قرأتُ بها، فأدركتُ أنّ تلك الصّورة الكابوسيّة في الغِلاف تُلخِّصُ حقًّا مضمون الكِتاب، فقد كانتْ قِصصه كأنّها ٱجتُثّتْ من حلمٍ يترُك داخلك شعورًا لا تسْتطيع وصفَه، لكنّك تسْتطعِمُه، حلُمٌ يُغري بالذّوبان في عوالِمه، لكنْ ما لم أتوقّعه أبدًا، أنْ يتسرّب هو لِعالمي ويعبثَ بِه. وهذا ما حدث بعد أن قرأتُ القصّة…
أبريل أشَدّ الشّهور قسْوَةً، كان هذا عُنوان قِصّة الكاتِب الكوبيّ جيليرمو كابريرا إنفانتيني. بدأتُ قراءتها مُتوقّعا الْمزيد من السّحر، الْغرابة والْجمال، لكنّها كانتْ قِصّة بسيطة للغاية. ففي الصّفحة الأولى مُحادثة ٱعتياديّة بين ثنائيّ حديث الزّواج يقضي شهْر الْعسل، وفي الصّفحة الثّانية يذهبان إلى الشّاطئ. قرأتُ الصّفحة الثّالثة ولا جديد، يعودانِ إلى الْفُندُق، يُقرّران الذّهاب للتمشي قرب الشاطئ، يَجلسان فوْق صخرةٍ عالِيةٍ تُطِلّ على جُرْفٍ تتكسّر عنده أمواجُ الْبحر. يتبادلان كلامًا وقُبَلا، وتسألُه عن ٱرتفاع الصّخرة. في الصّفحة الرّابعة، يمُرّ عليهِما صاحِب الْفندُق، يُرافِقه ليدفَع له، و يتركُها فوْق الصّخرة بعدما أخبرتْه أنّها توَدُّ الْبقاء لِمشاهدة الشّمس تغرُب، و طلبتْ منه الْعودة للْبحث عنْها حين ينتهي.
كانتْ لا تزال فوْق الصّخرة في الصّفحة الخامسة و الأخيرة، ظلّتْ تُراقِب الشّمس و هي تغوصُ في الْبحر، و بشيْءٍ من اللاّمبالاة، و ٱبتسامةُ سعادةٍ حزينةٍ تستلقي على ثَغْرِها، تمدّدتْ و حرّرتْ جسدَها من فوْق الصّخرة ببطْءٍ، و سقطتْ نحو الْجُرْف الأسود العميق، الّذي عرفتْ بعد نِهاية سُقوطِها أنّه كان يبعُد عن الصّخرة 80 مِترا !
شهِقْتُ مع آخر كلمة، وشعرتُ بشيْءٍ ما قد ٱنْكسر داخلي، وكأنّني فهِمتُ لماذا وقع هذا، وكأنّها الغيرةُ داخلي تغْلي، ٱنزلَقتْ على ثغري ٱبتسامة لم أسْتطِعْ منعها، وتملّكتْني القصّة تملّكًا لم أستطِعْ الفكاك منه. فقد وجدْتُ فِكرتها آسِرة، ساحِرة كالقصص الرّومانسية الّتي يفقد فيها البطلُ حياته من مَنظر شمسِ الغروب، أو رياح ديسّمبر العاتية، أو غيْمة صوفيّة علّقتها عاصِفة في كَبِد السّماء. و سمِعتُ نفْسي أقول:
– كيف لشخصٍ بدا مَليئا بالرّضا والسّعادة، مُفعمًا بالحُبّ و الحياة، أن ينتهي بالموْت، وحيدًا، فوق جُرفٍ بحرِيٍّ أسودَ و هو يشاهِد غروبَ الشّمس ؟ آه ما أروعَه من شُعورٍ.
رميْتُ الكتابَ بعيدا فوْق كَنَبَة مُجاوِرَةٍ، قُمْتُ فغسلْتُ وجهي، أزلتُ السّتائر وفتحتُ النّوافذَ، لكنّ القصّة لا تزالُ هناك داخلي تتلبّسُني، حاولْتُ إبعادها من ذِهني، شعرتُ بفكرتِها مُغريَة لحدّ الجُنون، ففكّرتُ أن أصُبّها في ورقةٍ، أنْ أتقيّأها كامِلة لعلّي أتخلّص منها، فحملْتُ قلمًا ودِفترّا فارغًا وبدأتُ الكتابة. غيّرتُ كلّ شيءٍ لكنّني ٱحتفظتُ بروح قِصّة إنفانتيني، فهذا ما ٱعتدتُ القيامَ به وأنا أحاولُ مُطاردة حلمي الطّفوليّ في أن أصير كاتبا، فقد كنتّ أحاكي بنادِق تشيخوف، أنهار فيرجينيا وولف، ومتاهاتِ بورخيس المجْنونة بشكلٍ كاريكاتورِيّ مُضحك. ولطالما ٱنتهتْ مُحاكاتي بالتّمزيق بعد أن أجدها مُسوخًا تُثيرُ في نفسي التّقزز و الاشمئزاز.
كانت قِصّتي بسيطَة : شابٌّ يستيقِظُ و يُمازِحُ أُمّه بِمرح في المطبَخ، يُخبرها بِقرْب زواجِه الّذي ٱنتظرتْه طويلًا، في المساء يلعب الكُرة مع أصدقائه ثمّ يتناوَل معهم الغذاء، يلْتقي بعدها بخطيبَته ليتناولا العَشاء معًا، يعودُ لبيته ويصعَد إلى سطحِ العِمارة، يجلِسُ على الحافّة، يتأمّلُ السّماء الصّافية المُرصّعة بالنّجوم، يُنصِتُ بتمعّن للموسيقى المُنبعِثة من سمّاعات في أذنِه، يُداعِب النّسيمُ وجهَه، و تتسرّب جُملة موسيقيّة خلّاقة إلى أعماقه، تَرتعِد فرائِسه، يُغلق عينيْه و يتنهّد مُنتشِيًا، و في لحظة، يشعُر أنّه نجْم في السّماء، نجْم ساقِط، شِهاب جميل مُنطلِق، و بنفس الطّريقة، يُحرّر نفسه نحو الأسْفل.
نسيتُ نفسي داخل القصّة، ولم أعُدْ منها إلاّ بعد أنْ تخلّصت من كلمات إنفانتيني الجاثمة عليّ، شعرْتُ بالإنهاك من فرْطَ ٱستغراقي، أغلقتُ الدّفتر ووضعتُه في حقيبةٍ دون أنْ أقرأ المَسِخ الجديد الّذي خلقْتُه، وبالتّالي دون أن يُكتَبَ له الّتمزيق. حملتُ هاتِفي لأُبعِد عنّي هذا الوَجْد الّذي أثْقل عليّ منذُ جلوسي للقِراءة. واكتشفت أنّ عشرَ مكالماتٍ فاتتْني قبل قليل، فهاتفي كان في وضعٍ صامِتٍ. أعدتُ الاتّصال وبعد لحظاتٍ وصلني صوْت أمٌي مبْحـوحًا، مُتحشٔرِجًا، وسُرعان ما ٱستحال إلى بُكاء. شعرتُ بالشّيء الّذي تعرّض للكسرِ داخِلي وهو يتفتّتُ وتذروه الرّياح. نطقْتُ بكلماتٍ غيرِ مفهومَة، ٱستفسرتُ منها بِعصبيّة، و بعد أنينٍ طويلٍ ٱستطاعتْ أخيرا أن تقول:
– رِضوان ذهب يا بُنيّ، رِضوان مات.
لم أستوعبْ كلامها، لم أُرِدْ أن أستوعبَ كلامها، فسألتُ :
– عن أي رِضوان تتحدّثين يا أمّي ؟ من مات، كيف، متى؟ ردّت و هي تُحارِب دموعها:
– رِضوان يا بني، ابن خالتك ربيعة، لقد قفز من سطْح عِمارتهم قبل قليل.
أحسستُ بارتعادٍ عنيفٍ في رُكبتي، و بخَدرٍ في لساني، أغلقتُ الهاتف، و شعرتُ بدقّاتِ قلبي كوحشٍ يُحاول الخروج، و سمعتُ صوتا نسيتُ أنّني أملِكُه ينطِق من داخلي :
– كيْفَ يمكن لهَذا أن يحدثَ ؟ كيْف يمكن لرِضوان أن يموتَ هكذا، كنْتُ معه قبل ساعتيْن فقط، لعِبنا كُرَة القدم في مَلعب القُرب، ضحِكنا بِجنون، تناوَنا الغذاء معًا في ” سناك سّي إبراهيم” ، و ذهبنا إلى حمّام الحيّ. و لو لم يكُن لديْه موعِدٌ مع خطيبَته لكُنّا الآن في المقهى نُشاهِد المُباراة !

لم أكَدْ أنطق بآخر جُملة حتّى هويْتُ أرضا، بدأتُ أشعُر بصفيرٍ في أذُني، وبِجسدي يتخشّب ببرودَةٍ كالثّلج. ٱتّجهتُ نحو الحَقيبة بصعوبةٍ، أخرجتُ الدّفتر بعُنفٍ كالممسوسِ، وحدثَ ما خشيتُ حدوثَه، كان الدّفتر فارِغا، فقد ٱختفتِ القِصّة.
توجّهتُ إلى الكَنَبةِ، حملتُ الكِتاب الّذي تركْتُه، قبل حين، فوْقها، وقبْل أنْ أجد تفسيرًا لكُلّ ما يحدثُ معي، هرولْتُ إلى المطبخِ، أوْقدْتُ فيه النّار وراقبْتُه وهو يحترِقُ، جمعتُ رمادَه و نَثَرْتُه من النّافذة نحْو الخارِج.
عُدتُ إلى غرفتي، اٍرتديْتُ ملابِسي بمشقّة لكيْ أذهبَ إلى منزِل خالتي، و في طريقي للخروجِ من الغرفة، رمقتُ فوق الكَنَبَة، صورة ٱمرأة أمامَ قمرٍ أسودَ، كان الكِتاب لا يزالُ حيثُ رميتُه قبل حرقِه. حينها، و حينها فقط فهِمتُ ما يحدث، فابتسمتُ و صعدت إلى سطحِ العِمارةِ.
أمّا أنا، وبعدَ أنْ أنهيْتُ كِتابةَ هذه القِصّة، أظُنّ الوقتَ قد حان لأتمشّى قُرْبَ الشّاطئ…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة