السيميائي الدلالي في ديوان (بخور الليالي) للشاعر السعودي د. علي الدرورة

كمال عبد الرحمن

السيمياء في الأصل هي رسالة تحتاج الى ثلاثة عناصر ( الدال/ المدلول / الدلالة ) و قد تكون على شكل حركة أو صوت أو كتابة أو اشارة ، فما هو الدال، الدال هو كلمة مثل(باب) والمدلول هو تحول هذه الكلمة الى صورة باب، والدلالة هي أي نوع من الأبواب هو وما هو بالضبط؟ هل هو( باب بيت) أم(باب سيارة) أم( باب قلعة) وهكذا، فنلاحظ أن الدال( الباب) كيف جرت عليه تحولات وتغيرات حتى نصل الى الباب المطلوب في هذا اللفظ أو الكلام، وهناك من يرى غير ذلك من النقاد، وكل يلتزم برأيه.
ونجد في شعر الدكتور علي الدرورة العديد من الدوال، وبخاصة مفردة ( البخور) التي تدل على عوالم ضاربة في جذر التاريخ، حيث البخور هو نوع من أنواع الهوية الشخصية التي تمثل وتميز إنسانا عن غيره:
عَبِيْرُكِ الأَخَّاذُ
سَلَبَ عَقْلِي
فَقَبَّلْتُكِ بِجُنُوْنِ الْوَالِهِيْنَ
وَمَالَتِ الدُّنْيَا
وَاهْتَزَّتْ حَوْلِي الأَكْوَانُ
وَلَـمْ أَدْرِ أَنَّ حُبَّكِ:
كَانَ سَبَبُهُ بَخُوْرُكِ الْمُقَدَّسُ
يَا سَيِّدَةَ الْبَخُوْرِ
نبدأ قبل كل شيء بعتبة العنوان ( بخور الليالي)، فالعنوان نحويا متكون من مبتدأ محذوف(هذا) وخبر (بخور) وهو مضاف و( الليالي) مضاف اليه، وهذا العنوان ، يكاد يفقد هويته الدلالية لأنه جاء ناقص النحوية، وهذا ما يسبب ارباكا في قدرة المتلقي على تحليل القراءة المفهومية والدلالية للعنوان نفسه، فهل بمقدور جملة ناقصة النحوية ان تمنحنا تحليلا كاملا ودلالة شاملة لمعنى العنوان، ربما يكون ذلك صعبا ولكنه ليس مستحيلا، وذلك لأن (العنوان دال ذو جدوى كبيرة في أية محاولة للوصول إلى مضمون الكتابة المندرجة تحته وهو في الكتابة الإبداعية مختلف عنه في أية كتابة أخرى، لأنه في الإبداع يحمل ألغازاً وأسراراً وإشارات تظهر وتختفي)، والسؤال( لماذا الليالي وليس الصباحات مثلا)، قد يكون الجواب أن البخور ربما بإمكانه أن يحدث تحولا نفسيا في أعماق الشخصية، فيجد الانسان في البخور عالما مائزا يتحرك جيئة وذهابا بين الخرافة والأسطورة، وان كان المقصود به هو عالم الشاعر الواقعي:
فَأَحْرِقِي الْبَخُوْرَ كَثِيْرًا
كَيْ تَمِيْلَ بِيَ الدُّنْيَا
وَتَهْتَزَّ الأَكْوَانُ حَوْلِي
وَأَهْتَزُّ مَعَكَ
لَيْلًا وَنَهَارًا
أَحْرِقِي الْبَخُوْرَ
أَحْرِقِيْهِ كَثِيْرًا
فَيَنْتَشِرَ الْمِسْكُ حَوْلَنَا
وَيَنْتَشِرَ الْعَبِيْرُ
وَنَعِيْشُ فِيْهِ سُرُوْرًا
بَعْدَهُ سُرُوْرًا.
يتشظى النص الى عدد من الدلالات، فالبخور بصفته الدال على صورة شعرية تشتغل بها حاسة الشم بوضوح، والليل هو مأوى البخور في ساعات التأمل والألم، والنهار هو امتداد لذلك الوجع الذي خلّفه الليل بعد أن عجز عن مواكبته واحتوائه، ويسعى الشاعر من خلال ( الدال/ البخور) أن يأخذنا الى أجواء بين السحر والدهشة، عوالم ضاربة في القدم لكنها تحدث الآن، فالبخور هو العامل المشترك بين عالمين:
نَحْرِقُ الْبَخُوْرَ
نَحْرِقُ الْجَاوِيَّ
الأَحْمَرَ، الأَسْوَدَ، الأَصْفَرَ
يَنْبَعِثُ الدُّخُوْنُ
فِيْ السَّوَاحِلِ
فِيْ قِمَمِ الْجِبَالِ
يَا بَخُوْرَ الْجَاوِيِّ
يَا رَوْعَةَ الْعَبَقِ الْقَدِيْمِ
أَيْنَ الْمَبَاخِرِ؟
الَّتِي ابْتَسَمَتْ فَرَحًا فِيْ وُجُوْهِنَا
أَيْنَ الأَيَّامُ
وَاللَّيَالِي
حِيْنَ كَانَ الْجَاوِيُّ يَدُوْرُ
حَوْلَنَا
وربما تكون الأسئلة حلّا غير ذي قناعة، فيتشظى الكلام على ألسنة الهواجس، وتدور المحاورات الداخلية:
أَيْنَ الأَيَّامُ
وَاللَّيَالِي
حِيْنَ كَانَ الْجَاوِيُّ يَدُوْرُ
حَوْلَنَا
ومن ثنائية الأماني الصعبة العميقة( الأيام والليالي) تبدأ الرحلة نحو( توازن الحياة)، فكم ستستريح الروح في دوران( الجاوي ) في براري الذكريات ، حيث كان البخور دالا سيميائا على دعة العيش ورغد الحياة ، يتفرد الشاعر الدكتور علي الدرورة باستعمال(البخور) دالا سيميائيا، كونه يمثل رمزا يدل على حاسة انسانية نادرا ما استعملها الشعر وهي ( حاسة الشم)، وبها يستحضر رؤى وأفكارا وذكريات سطرتها الشاعر من خلال التفنن في (الدال/ البخور) من تقديم صورة سيميائية تربط بن الانسان والبخور الذي بإمكان أن يُفعّل الأجواء الاسطورية ويعيدها الى صلب الواقع:
بَخُوْرُكِ الْمُقَدَّسُ يُعَطِّرُ الْدُّنْيَا
فَيَمْلَأُ نُفُوسَ الخَلَائِقِ
أُنْسًا وَطِيْبًا
بَخُوْرُكِ، لَيْسَ كَأَيِّ بَخُوْرٍ
فَفِيْ نَجْوَاكِ وَهَمَسَاتُكِ وَمُبْتَغَاكِ
أَتَأَمَّلُ الإبْحَارَ فِيْ عَيْنَيْكِ
وَأَرْسُمُ عَنْبرًا
مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْكِ
يَا فَاتِنَتِيْ
مِنْ أَيْنَ هَذَا الْبَخُوْرُ
أَهُوَ مِنْ صُنْعِ يَدَيْكِ
أَمْ جَلَبْتِيْهِ مِنْ قُصُوْرِ الْحُوْرِيَّاتِ
يحيل الشاعر الدرورة البخور الى مصدر انساني، عندما تتحول أنفاس الحبيبة الى نوع نادر من أنواع البخور، فلم تعد هي بحاجة الى البخور، لأنها صارت مصدرا من مصادر انتاج البخور، ولاشك أن ( الدال/ البخور) هي دلالات نصية تحمل أكثر من معنى ( فالبخور قد يعني رائحة الحبيب) و( قد يعني أنفاس الورد) و( قد يعني نوعا من الهوية أو الشخصية التي يمتاز بها مكان عن آخر)، فالبخور صار أداة جمالية لدى الشاعر يستعملها للتعبير عن صورة شعرية أو مشهد أسطورية، أو حادثة ضاربة في الخرافة، فالبخور جاء مع التاريخ، وانتشر مع التراث، وصار هوية للعشاق والشعراء والملوك الغائبين في غيابات الهوى: 
أَحْمِلُ الْمِبْخَرَ
فَأَنْشُرُ الْبَخُوْرَ
فَنَشْعُرُ بِالنَّشْوَى
وَالْحَنَانِ
يَنْشُرُ الْعَبَقَ
وَنَشْعُرُ بِالدِّفْءِ وَالأَمَانِ
بِرَوْعَةِ الْبَخُوْرِ
مِنْ مَبَاخِرِ الْحُبِّ
يُنْشَرُ السُّرُوْرُ.
لقد تميز الشاعر الدكتور علي الدرورة باستعمال( دال) نادر وعجيب لم يلجأ اليه الشعراء سابقا إلا قليلا ألا وهو( البخور)، و البخور يعطي عدة دلالات، منها ( أنفاس الحبيب العطرة) أو( رائحة الليل الزكية التي تجتمع حولها المخلوقات) أو( بث روح الاساطير والخرافات في واقعية سحرية تألقت بها قصائد الدرورة)، وقد نجح الشاعر في تقديم نماذج ناجحة من خلال عدة صور شعرية كان أساسها قد بُني من خلال حاسة العشاق( شم البخور)، لذا نجح الشاعر الدكتور علي الدرورة في تفعيل دال سيميائي متفرد هو البخور الذي اختاره الشاعر هوية لنصوص الشعرية الرائية والمائزة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة