عبد الوهاب الملوح
حين تبلغ آخر العمر وأنت تستفيق كمساء شتائي مهمل، وعلى ظهرك كل هذي الجثث التي لا تعرف أين ستلقي بها، التفكير هو الأسوأ من كل شيء؛ حاول فقط أن تسبق الشمس بعدم انتظارها. فما الجدوى من إطلالتها كل يوم. تلك الملابس البالية هناك وهنا؛ ذلك المشجب الخشبي وما تركت جثث السنين من صمت الكلام؛ كل هذا يصلح لأن يكون سيرة ذاتية غير موجزة لجسد كافح كثيرًا من أجل أن يكون عاريًا بلا أقنعة واستعارات ومحسنات بديعية. لا علاقة لاسمي بسيرتي الذاتية، لا علاقة للشبابيك التي انغلقت وتنفتح أحيانًا على مشهد يزول كلما هبت ريح على وجه الخطأ ناحية الدار؛ لا علاقة للدار أيضًا بما انحفر على جدران الروح.
لو فكرت أن أكتب سيرتي الذاتية سأترك ذلك للماء الذي حفر له جداول على جسدي الذي يرتاح مني، سأترك للطيش بكل ما فيه من ارتجال واندفاع ولا مبالاة، أترك له حرية أن يكتبني، ليس من أجل البحث عن معنى أو العثور عن كنز في الأدراج المنسية من هواء شريك في جريمة هذا العمر القاسي.
ليس هناك أي معجزة في الأمر، ربما المعجزة الوحيدة أني ما زلت هنا رغم كسل نهاراتي التي لا ترغب في التقدم بي نحو حتفي القريب مني. يراوغني كحرف لن يستقيم في معناه، ليس لأن هذا العالم قبيح وهو كذلك؛ وليس لأني عبء زائد على جسدي الذي يرتاب مني فأنا لم أف بما ينتظره مني ذلك الحيوان الداخلي، لقد خنت البغل الذي كان يجب أن أكونه! كنبات طفيلي، كعواء آخر الليل، كجرح ما ينفك ينفتح، كقطار معطب عند منتصف جسر مقطوع، كحرب خاسرة من الطرفين، كدمعة تتحجر في الهواء.
في ذلك الوقت عند ناحية من النهر المتمدد كأفعى، نسيت حقيبة كنت ملأتها بكل الأحلام والأماني القديمة، تركتها لمهب الرياح عند الأعالي. لم يعد فيها شيء من أغراض السفر لبقية العمر؛ لا يحتاج هذا السفر إلى متاع سوف يكفي أن أحمل ثمالة روحي توقد لي العتمة فيما يتبقى من الطريق. ما زلت أبذل جهدًا كي أسقط قريبًا مني، كي أسقط في هاوية الغيبوبة؛ كنت أحتاج إلى إجراء من هذا القبيل كي لا تقول عني النوافذ إنني خائنٌ لما قالته عني الستائر وما حدثته الحيطان.
كم أصبح لي من نصف ومن جزء ومن قطعة؟ حاولت مرارًا أن أصحح الأمر داخلي، ليس من أجل أن أمشي مستقيمًا، غير أنني انتهيت من عمري ولم ينته مني بعدُ…
هكذا أراني متأخرًا عني، بعيدًا عن جثتي القادمة، مرتابًا من خطى صمتى الذي يحوم حولي كأنباء سيئة.
أجلس وسط العمر وأسأل كيف وصل الأمر بي إلى حياة مشبوهة وموت بلا شهادة وفاة.
أيها العمر، من أنت ومن الذي جعلك تنتحلني؟ الآن أدركت أن فكرة الأسرة كذبة كبيرة بحجم الصورة العائلية المشدودة إلى حائط بيني وبين صمتي… صمتي الوفيّ لي كشجرة لا تخون أحدًا وأنا الذي ما زلت أخون مصائره وأخون حزني الذي رافقني منذ البدء، يحمل عني عبء المعنى، ويدلني على ما دار من حديث بين عمري وعمر آخر كان يمكن أن يكون لي.
بلور نافذة متّسخ

التعليقات مغلقة