الخطاب الشعري الأنثوي.. لرائدة العامري إبحار نقدي في تجربة الشاعرة جمانة الطراونة

حجاج سلامة
في كتابها “الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية”، تأخذنا الدكتورة رائدة العامري، في إطلالة على المناهج النقدية الحديثة، التي انفتحت على آفاق جديدة في الدرس النقدي، الذي تمكنت فيه من إرساء دعائم فضاء نقدي مغاير للنقدية العربية القديمة، حيث أتاح هذا الفضاء النقدي الحديث أن ينهل من معين هذه المنهجيات المغايرة للكشف عن مناطق نقدية جديدة لم يكن يلتفت إليها سلفه.
وتحدثنا “العامري” في كتابها الصادر عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع ببابل، عن تأثر هذا الناقد الحديث بما حققته العلوم والمعارف الأخرى من تقدّم وتطوّر؛ ولا سيما في فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي التي كرّست تقاليد جديدة للتعامل مع اللغة والصورة وغيرها من أدوات التشكيل في النص الأدبي الحديث.
وتتوقف بنا عند واحد من أبرز هذه الكشوفات الحديثة في الدرس النقدي الحديث، وهو الخطاب الأدبي الأنثوي؛ حيث صارت معاينة هذا الخطاب – بحسب قولها – تأخذ بنظر الاعتبار طبيعة النص الأنثوية وانعكاسها على هوية الكتابة، فصارت الكاتبة الأنثى تعي خطورة هذه القضية وتعمل عليها بما يجعلها تدافع عن ذاتها وخياراتها الأنثوية.
وتدلنا مقدمة الكتاب، على أنه بالرغم من أن هذا الموضوع ظلّ حتى الآن موضوعا سجالياً بين النقاد العرب؛ إلا أنه عمليا أخذ حيزا مهما في الدرس النقدي الحديث، ومن بين أهم الخطابات الأدبية التي سجّلت حضورها في هذا الدرس هو الخطاب الشعري الأنثوي.
وتذهب الدكتورة رائدة العامري في مقدمة كتابها، إلى القول بأنه لم يكن للشاعرة العربية في كل عصور الشعرية العربية المعروفة أي وجود أو حضور أنثوي؛ بحيث لا وجود لشاعرة عربية يمكن أن تعبّر عن طبيعتها الأنثوية وهواجسها الأنثوية وشواغلها الأنثوية برحابة وحرية، تمكّنها من الإعلان عن هويتها الأنثوية بوصفها امرأة لها خصوصية في كونها شاعرة لا تنتمي إلى المجتمع الذكوري.
وأضافت بأن المرأة الشاعرة العربية صارت لها هوية ابتداء من دخول الشاعرة الرائدة نازك الملائكة فضاء الشعرية العربية الحديثة.
واعتبرت أنه ربما يكون أفضل ما فعلته الشاعرة الملائكة في هذا المضمار، هو تكريس الصوت الأنثوي الذي كان غائبا تماما كل تلك القرون، وانفتح المجال واسعا أمام عدد كبير من الشواعر اللواتي حاولن تكريس هذه الرؤية في الشعرية العربية الحديثة.
هذا، وقد اختارت الدكتورة رائدة العامري، الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة، لتكون أشعارها محور دراسات وفصول كتابها “الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية”.
وقالت في أسباب اختيارها هذا، إن الشاعرة “جمانة الطراونة” بوصفها شاعرة تنتصر للنوع النسوي وتهتم به، تمتلك قدرة شعرية جيدة على الدخول في جوهر هذا الفضاء الأنثوي، والتعبير بحرية واضحة عن فضاء أنثوي رحب.
ونوّهت إلى أن الشاعرة جمانة الطراونة، تتميز بالانفتاح على عاطفتها الأنثوية الحرة وتمثيلها شعريا بلا أية عقبات أو إكراهات أو ضغوط تراثية أو تاريخية.
وبحسب دراسات وفصول الكتاب، فقد اجتهدت مؤلفته الدكتورة رائدة العامري، في مقاربة هذا الخطاب الشعري الأنثوي الخاص بالشاعرة من خلال فعالية (سرديةُ العاطفة ومسرحةُ الرؤية)، إذ هي تفيد من طاقات الفنون السردية على مستوى الحكاية والحدث والشخصية والمكان والزمن وغيرها.
وقد احتوى كتاب “الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية”، بين فصوله وأقسامه على مدخل نظري عنوانه: (في فلسفة الخطاب الشعري الأنثوي)، عملت من خلاله الدكتورة رائدة العامري، على وضع النقاط الأساسية لطبيعة هذا الخطاب ورؤيته ومنهجيته، تمهيدا للدخول في متون نصوص الشاعرة جمانة الطراونة في ديوانين شعريين لها هما: (قبضة من أثر المجاز) الصادر عام 2021، و (قصائد مشاغبة) الصادر عام 2022، وهي متون تنتمي – بحسب نصوص الكتاب – إلى فضاء الأنوثة أكثر من أي فضاء آخر حتى في تلك القصائد التي تكتب فيها الشاعرة عن موضوعات خارج ذاتها الأنثوية.
ومن المحاور التي تضمنها الكتاب: محور (حساسيّة اللغة الأنثويّة: الدلالة والنص) بوصفه المحور الأبرز في هذا الميدان، إذ إن اللغة في تشكيل الخطاب الأنثوي للشاعرة جمانة الطراونة– كما تقول “العامري” -هي الأداة الأكثر استثمارا وحضورا ووضوحا.
وفي المحور الثاني الذي جاء بعنوان (الرؤية الأنثويّة: المحطّات والشواغل)، حاولت المؤلفة انتخاب قصيدة ذات خصوصية تعبيرية وتشكيلية شديدة الأهمية، تتعلق بالخصوصية الأنثوية الصوفية التي تكشفت فيها الشاعرة عن روح أنثوية تقارب تجربة الشاعرة “رابعة العدوية” شعرياً.
أما المحور الثالث فقد حمل عنوان (سردنة الأنوثة الشعرية)، وكشفت فيه المؤلفة عن إفادة الشاعرة من فنون السرد لتطوير أدواتها في التعبير والتشكيل، وبكل ما تنطوي عليه هذه الرؤية من طاقة أنثوية ظلّت حاضرة على مستوى اللغة والدلالة والصورة والمضمون.
ولفتت مؤلفة الكتاب، إلى أن الشخصية الشعرية الأنثوية لا تظهر هويتها على النحو المطلوب من دون حضور شخصية الآخر بأشكاله المختلفة، وأنه كان لا بد على هذا النحو من مقاربة هذا الموضوع في شعر الشاعرة جمانة الطراونة، ومن هنا كان المحور الرابع من محاور الكتاب تحت عنوان (التناغم الأنثوي مع الآخر) للكشف عن طبيعة تعامل الذات الشاعرة مع الآخر في هذا المجال.
واختارت الدكتورة رائدة العامري، أن تقدم في المحور الخامس من كتابها قراءة نقدية للطبيعة الأنثوية الخاصة بالشاعرة جمانة الطراونة، ومن ثم فقد جاء هذا المحور تحت عنوان (أنثويّة الذات الشاعرة).
وقالت الدكتورة رائدة العامري في هذا الخصوص، إنه يمكن القول أن الشاعرة جمانة الطراونة في كل قصائدها تقريبا لا بد أن يعثر القارئ على لمسة أنثوية، أو حركة أنثوية، مهما كان موضوع القصيدة، وان هذا التأثير يكشف عن مدى انتماء الشاعرة إلى جوهرها الأنثوي في صياغة تجاربها الشعرية المختلفة، وفي التعبير عن هويتها الخاصة التي تحرص على حضورها في مجمل قصائدها بعلامات واضحة وأكيدة.
وأكدت على أن الشاعرة ظلّت أمينة على طابعها الأنثوي في أشعارها كلها بلا تفريط في حرارة هذه الأنثوية وغزارتها، وبلا مبالغة في توكيد النزعة الأنثوية وفرضها على المجال الشعري.
وأما المحور السادس والأخير من محاور الكتاب، فقد كان بعنوان (زخم الطاقة الأنثوية الدرامية)، وعملت فيه المؤلفة على البحث في علاقة شعر الشاعرة الأنثوي بالدراما؛ باعتبار أن حقل الدراما ينطوي على طاقات هائلة يمكن للشاعر الذكي الإفادة منها وتطوير نصه الشعري من خلالها، فمسرحة القصيدة صارت من ضمن أحدث الإجراءات التي يقوم بها الشاعر العربي الحديث بشكل عام، وحين تتحرك أنثوية الشاعرة باتجاه معطيات الدراما فهي ربما الأقرب من حيث الحساسية والفضاء من الشاعر الذكوري بشكل أو آخر، لأن الحساسية الدرامية فيها كثير من الحس الأنثوي والتجليات الأنثوية.
وفي الختام فإنه يمكن القول بأن كتاب “الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية”، ربما يكون فاتحة لدراسات أخرى في هذا السياق؛ تتناول الفضاء الأنثوي الحديث في الشعر، وفي الفنون الأدبية الأخرى التي شهدت حضورا أنثويا لافتا كالراوية على سبيل المثال، وكذلك القصة القصيرة وكل أنواع السرد الأخرى، فضلا عن المسرح والدراما والفنون التشكيلية وغيرها، حيث أثبتت المرأة المبدعة أنها قادرة على تقديم نماذج حية في المجالات كلها، وتظل بحاجة إلى التفات نقدي كثيف يكشف عن هذه القدرات المهمة.
يُذكر أن مؤلفة الكتاب، الدكتورة رائدة العامري، هي ناقدة وأكاديمية عراقية، تعمل أستاذة بجامعة بابل، وقد صدر لها مؤلفات عدة منها: خطاب المرأة في شعر الجواهري، والرافدان في الشعر العراقي الحديث 1900 – 1950، وتجليات النصوص في التحليل النقدي.. قراءة في السرد والشعر، وعبدالله الغذامي الناقد المختلف.. قراءات في نقد النقد، والفضاء النصي.. قراءة تأويلية في شعر حاتم الصكر، وغير ذلك من المؤلفات النقدية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة