يوسف عبود جويعد
المجموعة الشعرية “قصائد مشبوهة” للشاعر ناصر رزوقي، تميل في عملية بنائها وسياقها الفني ورؤيتها، الى المفردة الشعرية التي تضمر في أنساقها، انزياحية خفيفة، ذات معانٍ يمكن فتح مغاليقها، وفك شفراتها، بذات الانسيابية التي يتابع فيها القارئ بقية أدوات وعناصر صناعة القصيدة النثرية التي من الضروري أن تحمل تلك المفردات حسية شعرية عالية، كما نجد أنها تتألف من ثيمة تبدأ منذ بداية القصيدة وتتصاعد متوحدة نحو نمو موضوعها الى نهايتها، وكما يشير العنوان، فإن تلك القصائد خرجت لتكون هموماً يومية متراكمة غزيرة حملها الشاعر ولما ناء بحملها جعلها قصائد تداعب وجدان القارئ، لأنها تخوض في مواضيع شتى، وتدخل في أبواب عديدة، الحرب، الرفض، الحصار النفسي، الانكسارات، الخيبات، وأنها مشبوهة لأنها ذات الشاعر، الذي عاش الحياة في كل ظروفها، شأنه شأن كل فرد من أبناء البلد، الذين خاضوا كل المتغيرات والمتقلبات وقسوة وضنك العيش، وللفقير نصيب في هذه القصائد.
وفي القصيدة الشعرية النثرية “قصائد مشبوهة” نجد تلك الرؤية الفنية التي اختارها الشاعر سياقاً فنياً لتلك النصوص الشعرية، نقتطف منها:
ما زالت كلماتي تصرخ
كأنثى تضج صدرها
وما زالت قصائدي مشبوهة
عند الشرطة والكهنة
أما القصيدة الشعرية النثرية “أبي” فإنها تضعنا أمام قسوة حياة الأب، وهمومه ومعاناته، وبعض تصرفاته وسلوكه وطريقة حياته التي كان الابن لا يجد تفسيرا لها، ولما كبر عرف لماذا الأب يفعل كل هذا:
الآن فهمت لماذا كان أبي يحبّ ملابس الموتى
لماذا كلّما أراد أن يحلق لحيته تجرحه (الشفرة)
ما كان مهتماً بأمي
في ظلام الليل يسير وحده يتبع خطوات لا علم لي بها
يكره الصور والمقتنيات الثمينة
كلّ أجوبته ابتسامة
ما كان يشتكي من حزنه
مولع هو بشيء لم أفهمه
ونجد أن الابن عندما يكبر، يجد تفسيراً لحياة أبيه، لأن حياته صارت أشبه بحياته وتصرفاته هي ذاتها حياته، وحزنه وهمومه وكل شيء فيه يشبه أبيه:
والآن كبرت واشتهيت أن أرتدي ملابس الموتى
وأخرج في ظلام الليل أتبع خطى غريبة
وما زالت (الشفرة) تجرح وجهي
وما زال أولادي لا يفهمون لماذا أسير في ظلمة الليل
ولماذا ابتسم أمام كلّ الأسئلة
أما الأم فإنه يصفها بقصيدة شعرية مختزلة وجزيلة، ولكنها عميقة ومكثفة في معاناتها، تلك هي قصيدة “أمي”:
حينما تكون الشكولاتة
في مكان بارد
تكون جميلة
تشبه النساء
وحين تكون
تحت أشعة الشمس
فإنها
تشبه أمّي
المتعبة
أما القصيدة النثرية الشعرية الرثائية التي تحمل عنوان “ضياء قهّار” وحملت عنواناً ثانوياً “كنت دائماً تقول لي الى اللقاء… وأنا اليوم أقول لك وداعاً يا صديقي”، فإنها تغوص في أعماق لوعة الشاعر وحزنه وهو يودع صديقه أمام شاهدة قبره:
هل أحسست بالبرد
هل أصفّر جسدك
هل نمت بلا غطاء
شعرك الطويل هل ما زال طويلاً
كيف حال القبر
هل اشتقت للهواء
هل وجدت وطناً قدر حلم
الى آخر تلك القصيدة الموشحة بسواد الحزن.
وفي القصيدة النثرية الشعرية “إليكِ عنّي” فإنها تنقلنا الى القصائد العاطفية، الا أن الشاعر هنا قد عيل صبره، وفقد حس التواصل لعدم الجدوى:
الخوف يسكن الجسد
أمام ابتسامة الجدران الثمانية
رجس الشيطان
يمضي أمامي
والخوف يعتلي خطاي
انتفاضة الروح
ملحمة
ما تزال يدي ترتجف
طمعاً بلمس ابتسامتك
وقصيدة “أضحك” فإنها تقدم لنا الانسان المأزوم بضنك العيش وفقدان الحرية:
أصرخ أبكِ لا أحد يسمعك
يا معصوب العينين
سوف تغني في رأسك طلقة
حقوق الإنسان محفوظة للناشر
اضحكوا معي
هنالك أرنب وسلحفاة يعيشان
يغنيان
كرامتهما محفوظة
أما القصيدة النثرية الشعرية “حين أختنق” فإنها تمنحنا فرصة طيبة للوصول، الى رؤيا الشاعر، وماذا يريد من قصائده المشبوهة هذه، لأنها تمثل صرخة استغاثة، ومحاولة للخروج من هذا الضيق الخانق، والبحث عن الحرية والتذكير بها:
حين أختنق
أضحك أمام كلّ شيء
أعصر عرقي
وأشربه كأساً تلو كأس
حين لم يتصل أحد
من فترات متباعدة
أحرّك الأرض
عسى أن يكون هنالك إنسان
لا شيء يؤلمني
كلّ الحروب مضت فوق جسدي
وهكذا تمضي تلك القصيدة لتستعرض حياة بلد وانسان وسط الحروب ووسط الاختناق ووسط البحث عن الحلم.
ونعود ثانية، لمناجاة الابن لأبيه، في القصيدة الشعرية النثرية “بلا أسنان” كونها تحمل تداعيات مثيرة للشجن، لأن الابن لم يحقق حلم أبيه:
كان يتمنّى أن أكون رجلاً
خسر عمره لهذا الشيء
وعندما كبرت ومات أبي
نسيت أن اقول له
أبي إني قد ربيّت بعوضاً تشرب دمي كأصدقاء
أبي كلّ الجائعين طبخت لهم جسدي
أبي التائهون الآن ينامون في صدري
كلّما ضحك البعوض تذكّرت أسنانك المتساقطة
ثم يختتم الشاعر مجموعته الشعرية هذه، بقطعة نثرية هي حصيلة كل ما حدث، ونتاج كل تلك القصائد الشعرية وهي مطولة نقتطف منها:
أنا الذي ركض خلف سيّارات الاحتلال البريطاني كي يحصل على قشرة رقي
أنا ذلك الذي فرح بموت الملك وراح يرقص أمام ثورة 14 تموز
أنا ذلك الذي ناصر الشيوعيّة والقوميّة والبعثية.
“قصائد مشبوهة” للشاعر ناصر رزوقي، خطوة جديدة، نحو عالم الشعر العميق الواسع،
من اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2025
هموم يومية في “قصائد مشبوهة”

التعليقات مغلقة