نظرة في اتفاقيات السرد وتقويضها

مهدي علي ازبين
تعد الفنون الإبداعية ساحة متجددة لانطلاق المبادرات الفكرية والنقدية، وفي مجال الأدب تغدو الرواية مادة دسمة يشتغل عليها الباحثون لاستجلاء السمات الفنية والمستجدات المتساوقة مع دفقات الأنساق الفكرية وصرعاتها، وفي هذا المجال تصدى الدكتور إحسان التميمي للحفر في فنون الرواية العربية وتقنياتها، وأصدر كتابًا عنوانه: (تقويض اتفاقيات السرد ويتبعه وبعنوان ساند: (مقاربات في صناعة الرواية العربية)، احتوى الكتاب خلاصات متابعاته للمنجز الروائي العربي، وعلى الأخص ما تركه الكاتب واسيني الأعرج من أثر لافت.
توزع الكتاب على مقدمة وتمهيد تنظيري وأربعة فصول، وقد جاء في المقدمة أن الأشكال السردية ارتبطت بالتحولات المختلفة، وبسبب طبيعتها التكوينية المنضوية على التخييل؛ اسهمت في تفاقم الحساسية بسبب بنيتها المتغيرة التي لا تقبل التنميط، كونها لا تخضع لمعايير الكتابة التي عرفت بها الأجناس الأدبية الأخرى، لهذا تنحو إلى التجديد بشكل مفرط.
إن فكر ما بعد الحداثة تبنى مفاهيم تدعو لزعزعة مقولات الحداثة التي أنتجت حضارة إنسانية مشوهة، لذا سعى الباحث في هذه الدراسة إلى استنطاق النص الروائي بوصفه منهجًا تحليليًا، ورصد تمثلات ما بعد الحداثة في روايات واسيني الأعرج التي يجدها تتحدى التنميط.
في التمهيد يذكر المؤلف تحت عنوان (الأصول) أن ما بعد الحداثة شملت نطاقًا واسعًا من التغيرات في الفكر الإنساني في بداية القرن العشرين مع نهاية الهيمنة الأوربية وثورة الاتصالات التي أدت إلى انتشار الثقافات المحلية والفرعية والهامش، وفي المقولات يثير مصطلح ما بعد الحداثة إشكالية واضحة لتشظيه إلى ما بعد حداثات بحسب الحقول التي توظفه في بنيتها ومنظوماتها المعرفية والثقافية، وقد خضع المصطلح في المشهد النقدي العربي إلى تغيير وتحوير باختلاف الرؤى والمرجعيات لدى الباحثين الذين استفاضوا منه في خطاباتهم الفكرية والنقدية.
كما يرى الباحث أن الرواية تعمل على كسر النمط، وتجهد أدواتها للابتعاد عن التقنين على الرغم من أنها تستند على البناء السردي، وهي تخضع لصانعها الذي يخلق فضاءها من دون الرجوع إلى منطق الواقع الاجتماعي ومسايرته.
تناول الباحث في الفصل الأول موضوعة السرد الموازي والمتمثل بالواقعية السحرية التي انمازت عن أنماط كتابية أخرى، وحظيت باهتمام عالمي في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد كانت بيئة أمريكا اللاتينية هي الحاضنة الرئيسة لأدب الواقعية السحرية، بوصفها رد فعل على القيم الأوربية التي حاربت القيم الغيبية والسحرية والعجائبية.
حضرت الواقعية السحرية في خطاب واسيني الأعرج من خلال تأثيث عالم واقعي مستساغ، ثم يخرقه بالانتقال إلى عوالم يحوطها العجائبي، كي يضع القارئ بين الواقعي والعجائبي ليحقق صيغة الواقعية السحرية.
وفي الفصل الثاني يناقش الباحث موضوعة ظهور المؤلف، ويؤكد على ظهور المؤلف في كتابات ما بعد الحداثة بعد أن كان متواريًا خلف الراوي العليم، ممسكًا بالأحداث من الخلف، ومتنبئًا بأفكار الشخصية ومتدخلاً بوصفه شارحًا ومعللاً للأحداث.
وفي ظهور المؤلف الجديد يتم إشراك المتلقي المتماهي مع المروي له، وتعد هذه التقنية من حساسية السرد الجديد نمطًا من أنماط النرجسية التي هيمنت على الكاتب، وتمردًا على النسق التقليدي المتعارف في الرواية الحداثية.
يهتم ظهور المؤلف بالعملية الإبداعية (الكاتب ولعبة الكتابة)، أي طريقة ابتداع الأنظمة الروائية التخييلية، فظهور المؤلف فيما وراء السرد، وكشفه لطرائق انتاج روايته يكشف بصورة غير مباشرة العملية المماثلة التي أنتجت كل أنظمة المعاني في العالم.
استثمر واسيني الأعرج الآليات في بناء نصه التلفيقي، إذ لم يظهر المؤلف على نحو سافر يستند إلى تهيئة القارئ لتقبل الرواية بوصفها عالماً تخييليًا من صنع المؤلف لأنه الخالق الوحيد الذي يقود النص، ويحكي قصة كتابته ولعبته الروائية، وقد جاءت صيغة ظهور المؤلف في روايات واسيني الأعرج بأساليب وتقنيات متفاوتة، إذ يوهم القارئ بالتسليم بالمطابقة بينهما من خلال البناء المشوش، وخلط أوراق السرد والتلاعب بصيغ الضمائر.
ناقش الباحث في الفصل الثالث ثيمة الجسد وتوظيفها في النصوص الإبداعية، وهذه الثيمة قديمة ومتجددة، فقد صارت طرائق التعامل معها علامة فارقة لتمييز خطاب عن خطاب بحكم صدارتها في المشغل الأدبي، ولعل زاوية النظر الظاهراتية للجسد من أهم زوايا النظر الفلسفية المتأخرة بحيث تكشف الأواصر الخفية لوجودنا المتحقق في تضافر الوعي مع الموضوع.
لا تنحصر وظيفة الجسد في أنه وسيلة تعبير (كلامية- بيانية)، وإنما تمثل بكونه أداةً في تحويل الأفكار إلى أشياء، فالجسد في صميمه إدراك وتعبير وحضور أمام العالم والآخرين.
عند البحث في منجز واسيني الأعرج يمكن ملاحظة أن رواياته حافلة بالصور المرعبة، كيما يكسر النسق التقليدي الذي كان ينأى عن تمثيل الصور المقززة للإيذاء الجسدي بوصفها منافية للذوق الجمالي، لا سيما الرواية العربية.
لقد مثلت صيغة الإيذاء الجسدي سمة بارزة في أغلب روايات واسيني الأعرج، فهي الصيغة القريبة من معطيات الواقع، فضلاً عن كونها أداة وظفها الكاتب من أجل تقديم وقائع وأحداث تاريخية مأساوية.
في الفصل الرابع يحضر استعراض لمفهوم تعدد الأصوات وكيفية استخدامه في روايات واسيني الأعرج، فيرى في هذه التقنية ثمرة مخاضات شكلية ومضمونية تعكس منهجية الانفتاح والإيمان بالتعددية الصوتية والرؤيوية التي تنسجم مع روح ما بعد الحداثة، بعد أن كانت الرواية تشكو من هيمنة الصوت واحد ذي رؤية شمولية.
إن تعدد الأصوات وثيق الصلة بوجهة النظر، وقد حضر في المجال السردي ليغني إدراك المتن الحكائي للرواية ضمن صيغة محددة، وهذه الصيغة أما أن تكون متأتية من منظور شخصية من شخصيات الرواية أو من منظور راوٍ افتراضي لا علاقة له بأحداث الرواية، ويعد التبئير مصطلحًا بديلاً عن مصطلح وجهة النظر، وهما يتطابقان في الخطوط المفاهيمية لكليهما.
خلص الباحث إلى أن الروائي واسيني الأعرج حاول في كثير من رواياته أن يحقق ذاته ووجهة نظره بالاستناد إلى خطابه وتعدد مستويات لغته، وأفاد من الراوي المفترض في التحرر من اللغة الوحيدة والتخلص من هيمنتها وعدم تحديد موقفه منها، فينقل نواياه من نسق لغوي إلى آخر مع مزج لغة الحقيقة باللغة المشتركة والحديث عن ذاته بلغة الآخرين والحديث عن الآخرين بلغته.
……………..
تقويض اتفاقيات السرد (مقاربات في صناعة الرواية العربية)، د. إحسان التميمي، دار الورشة، بغداد، 2024م.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة