التشارك المكاني وتماهي الإدراك في “عين الطائر” للقاص محمود عبد الوهاب

الدكتور عادل الثامري

تتجاوز قصة “عين الطائر” كونها مجرد قصة عن تفاعل بين الإنسان والطائر لتتخذ أبعادًا فلسفية تتأمل في إمكانية التحرر من محدودية الإدراك الإنساني. تدعو القصة إلى رؤية أكثر شمولًا للعالم تتخطى التصنيفات التقليدية، وذلك عبر تبني تجربة إدراك مشتركة تعزز الانفتاح على العوالم الأخرى. هذا الطرح يعيد النظر في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، اذ يقترح النص نوعًا من التعاطف الجذري الذي يتجاوز حدود المراقبة السطحية إلى إدراك متعمق لطبيعة الترابط بين الكائنات.
يحمل العنوان “عين الطائر” دلالات متعددة المستويات؛ يشير على المستوى المباشر إلى العين المادية للنورس التي وصفها النص بأنها “عين لحمية” والتي تمثل نقطة التواصل الأولى بين الكائنين. أما على المستوى الإدراكي، فهو يعبر عن رؤية مختلفة للعالم من منظور غير بشري. بينما يرمز على المستوى الفلسفي إلى إمكانية تجاوز الذات والنظر إلى العالم بواسطة عين الآخر. كما يرتبط العنوان بمصطلح فني معروف في التصوير والرسم، وهو “منظور عين الطير” (Bird’s Eye View)، الذي يقدم رؤية شاملة من الأعلى. وبذلك يصبح العنوان دعوة لتبني منظور جديد وشامل يتجاوز محدودية الرؤية البشرية التقليدية، مما يجعله مفتاحًا لفهم القصة ورسالتها عن إمكانية التحرر من قيود الذاتية الإنسانية.
يتجلى المكان في النص بوصفه فضاء حيا يتجاوز التصنيفات التقليدية. يظهر الشاطئ على انه منطقة حدودية مثالية – شريط طيني متغير يمثل لحظة من التداخل والتحول. الحدود هنا ليست مجرد خطوط فاصلة، وانما مساحات تنبض بالحياة، إذ تتوغل الجداول الصغيرة عبر البساتين وأحراش النخيل، مخترقة التقسيمات الظاهرية. هذه السيولة المكانية تظهر بوضوح في طيران النوارس، اذ تتحول الحركة إلى استعارة للتحول الوجودي. والنوارس ليست مجرد كائنات تحلق في الفضاء، بل هي جزء من عملية مستمرة لإعادة تشكيل المكان. وتصبح هذه العملية أكثر شاعرية حين يتبدل مظهرها بين الظل والضوء، اذ تتحول ألوانها من الرمادية في الظل إلى الحنّائية حينما يلامسها ضوء الشمس. هذا التحول في الألوان ليس مجرد وصف جمالي، بل استجلاء عميق للعلاقة بين الجسد والفضاء، اذ يصبح المكان نفسه ديناميكيًا ومتشابكًا مع الإدراك الحسي للسارد والنورس. حين يصف السارد المساحة بأنها “لا شيء سوى الماء وأضواء شفافة وأشكال متلاشية”، يقدم رؤية للمكان بوصفه فضاء تذوب فيه الحدود بين المادي والمجرد. ان محاولة انتشار الجناحين والارتفاع عن الأرض هي محاولة لإعادة تخيل المكان نفسه.
ويتحول الفضاء في النص إلى وسيط للتواصل غير اللفظي بين السارد والنورس. تصبح النظرات والإيماءات لغة بحد ذاتها، تعكس رغبة في فهم الآخر والاعتراف به. يصف النص، في أحد المقاطع، كيف “انعطف نحوي النورس الصغير كعادته، تتبعه النوارس الأخرى، حتى إذا ما اقترب من المكان الذي أقف فيه على الشاطئ وتفحصني جيدًا، وتأكد من مجيئي، رمقني بعينه الجانبية ثم تقوس بعدها، في حركة مباغتة.” هذه اللحظة ليست مجرد فعل عابر، بل هي عملية مدروسة من التقارب والاعتراف المتبادل. النظرة هنا تتجاوز المعنى الحسي لتصبح لغة تحمل دلالات عميقة من الفهم العابر للأنواع. يصف النص عملية تواصل متقدمة ويتجلى هذا الوصف في مجموعة من الأفعال الدقيقة: نهج مدروس، وحركة جماعية تنطوي على التزامن، وتفحص دقيق يعكس رغبة في التعرف والاعتراف بالآخر. تصبح النظرة هنا أكثر من مجرد فعل بصري؛ إنها لغة قائمة بذاتها، تتحول إلى وسيلة حوار عميقة تتجاوز حواجز اللغة والكلمات. كما يتجلى التواصل غير اللفظي بشكل مذهل في النص، اذ تتحول الإيماءة البسيطة إلى لغة كاملة من التواصل. اللحظات الصامتة مليئة بالدلالات، كما في وصفه “غير ان النورس الصغير بحجم الكف، الذي اعرفه جيدا، ظل ينعطف حولي في دورات خرساء لا اسمع فيها سوى حفيف ريشه وهو يمرق من المكان”. تتجسد لحظات الاستشعار المتبادل في مشاهد دقيقة. النورس ليس مجرد كائن صامت، بل كيان واعٍ يمتلك إرادة واضحة. يستكشف النص مفهوم التواصل العابر للأنواع، ويتحقق ذلك بفعل التفاعل البصري المعقد والمليء بالمعاني.

ويقدم النص فلسفة خاصة حول مفهوم الاتصال، فالفهم الحقيقي لا يتحقق عبر الحوار العقلي فحسب، بل عبر الإدراك العاطفي العميق والمشاركة الحسية كذلك. يصبح النورس، في هذا السياق، رمزًا للوجود العابر، والاستقلالية الإدراكية، والانفتاح على التجربة الجديدة. ينتهي السرد بتعبير السارد عن رغبة دفينة “لماذا أحسست الآن بالرغبة في الدنو منه والإمساك به؟” هذه الرغبة تعكس توقًا ليس فقط لفهم وجود النورس، بل لتخطي القيود التي تفصل بينهما. إنها رغبة في تجربة الوجود من منظور مختلف، وربما تجاوز حدود الإنسانية التقليدية إلى حالة من التفاعل الكوني العابر للأنواع. وبهذا، يتحول النص إلى دراسة وجودية، ويصبح النورس رمزًا للبحث عن معنى جديد للاتصال، يتجاوز المفاهيم التقليدية للغة والفهم، ليصل إلى إدراك عاطفي وإحساسي مشترك مع الآخر، أياً كان شكله أو طبيعته.
تتكثف لحظة التشارك المكاني في التقارب الحميم بين السارد والنورس الصغير. دورانه البطيء، واستدارته نحو السارد، وفحصه بعين لحمية وبحركة مرتجفة – كل هذا يمثل حركة مركبة من التقارب والابتعاد. وتتحول المسافة إلى مفهوم مرن، تُذاب بفعل الحركة الدائرية والملاحظة المتبادلة. هذا التصور الدينامي للمكان يتحدى المنظورات الأنثروبية التقليدية. فالمكان ليس خلفية سلبية، بل كيان نشط وتفاعلي. والحدود ليست ثابتة، بل يعاد ترسيمها بواسطة الحركة والإدراك والتفاعل. الشاطئ، والنوارس، والضوء، والسارد – كلهم مشاركون في كوروغرافيا مكانية معقدة عصية على التصنيف البسيط.
وتتعمق العلاقة بين السارد والنورس في مقطع يذوب فيه الحاجز بين الكائنين، حين يصف النص لحظة اتصال متبادل: “استدار نحوي نورسي الصغير: رأسه تجاهي، ومنقاره منغرز في الفضاء يتفحصني بعينه اللحمية في حركة مرتجفة، يدور ويدور ويدور وندور معًا في حلقات أخذت تضيق حتى قضينا على المسافة التي تفصل بيننا.” وفي هذه اللحظة، تتحول العلاقة من مجرد مراقبة إلى تفاعل حميمي ووجودي. وتشير الحركة الدائرية التي تجمع السارد والنورس إلى تلاشي الحدود، ليس فقط بين الأنواع، وانما بين العوالم المادية والميتافيزيقية ايضا، اذ يتوحد الكائن البشري والطائر في دائرة من الإدراك المتبادل.
تذوب الحدود بين الذات والموضوع، بين الإنسان والحيوان، في لحظات التحول والتماهي. عندما يمد السارد جناحيه ويحاول الارتفاع، يحدث انزياح وجودي عميق يفكك مفاهيم الهوية الثابتة. إنه دعوة للتفكير في الوعي كتجربة أكثر تعقيدًا وسيولة، تتجاوز التصنيفات الجامدة للكينونة. تحدث اللحظة الأكثر راديكالية عندما يقول السارد: “عبر أجنحتي الممتدة في الفضاء، غاص المكان البعيد الذي كنت أقف فيه وتبعثر”. هنا يتم محو الحدود بين الذات والعالم، وبين الإنسان والطبيعة. يقدم النص رؤية عميقة مفادها أن الفهم ليس عملية سيطرة، بل رحلة من الانفتاح والتعاطف. إنه دعوة للتفكير خارج الأطر المعرفية التقليدية، وفتح إمكانيات جديدة للتواصل والإدراك. في النهاية، يتحول النص من مجرد وصف لتفاعل بين إنسان وطائر إلى تأمل فلسفي عميق في طبيعة الوعي والوجود، مقدمًا نموذجًا بديلًا للتفاعل مع العالم غير البشري.

تمثل لحظة التحول النهائي في القصة تتويجًا للعلاقة بين السارد والنورس، اذ يعيش السارد تجربة تماهي تنتهي بتحول رمزي وربما حرفي. يكشف المقطع الختامي عن هذه النقلة النوعية “أفردت جناحي وصفقتهما محاولا أن أنهض من على الأرض في توازن تام. استدرت صوب الشط مخترقًا فضاءه باسطًا جناحي على الرقعة المائية والعشاق ومباني المدينة.” في هذا المشهد، يتحقق التماهي الكامل بين السارد والنورس. فالسارد يقلد حركة الطائر بشكل مادي حيث يفرد جناحيه ويحاول النهوض من الأرض، ليعكس التزامًا جسديًا وعاطفيًا بفهم وجود النورس. هذه المحاكاة الجسدية ليست مجرد فعل حركي جسدي، بل هي رمز لوحدة تتجاوز الرؤية التقليدية للفصل بين الإنسان والطبيعة. ويتحرر السارد من قيود الأرض، ليعيش لحظة إدراك للطيران من منظور النورس، ما يمثل تماهياً وجودياً بين الاثنين.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة