تغير سوسيولوجية المجتمع وصراع الاجيال

د. نادية الجدوع

إن من أهم ما يميز  تغير المجتمع الإنساني عن غيره هو ما يتم بشكل  دائم ومستمر، سواء ما تعلق  بسلوكيته التي تتغير من جيل لآخر ومن فترة لأخرى، أو بواقعه العمراني الذي يشمل شتى نظم الحياة الاجتماعية،  نتيجة التفاعل الحاصل بين أفراد المجتمع الواحد، ثم بين المجتمع ككل وبين باقي المجتمعات الأخرى، ما أسماه عالم الاجتماع الفرنسي أوكست كونت في بداياته التأسيسية للسيسيولوجيا بالفيزياء الاجتماعية، للتشابه الواقع بين العمليات التفاعلية لكل من مكونات المادة الطبيعية والظاهرة الاجتماعية، فإذا كانت الفيزياء الطبيعية تدرس مكونات المادة وتفاعلها فيما بينها وتخلص في الأخير إلى قوانين طبيعية دقيقة، فإن السيسيولوجيا تدرس مكونات المجتمع وتفاعلها مع بعضها البعض مبرزة فيها عوامل التأثير والتأثر، وكيف تتشكل تلك ظواهر والنظم وعلاقات اجتماعية متناسقة ومتكاملة فيما بينها لدرجة أن كلا منها جزءا لا يتجزأ في بنية الأخرى، وتحاول في النهاية أن تزيل الستار عن القوانين الخفية التي تحكم تلك الظواهر والنظم والعلاقات، مما يخول للفرد أن يتحرر من سلطة مجتمعه إلى حد ما بدل الخضوع لها بالمطلق.

وتشهد مجتمعات العالم منذ ما يزيد على قرن تغيرات واسعة وحثيثة، وإن كانت متفاوتة في حدتها. وتتميز هذه التغيرات بأنها أنهت أساليب حياة كانت قائمة لقرون، بما تعنيه عبارة “أساليب حياة” من أنماط عمل وطرق تواصل وسبل تنظيم ومعايير وقيم وخلاف ذلك. انتهت الأساليب القديمة وحلّت مكانها أساليب حياة تتجه شيئاً فشيئاً لأن تكون متشابهة أكثر عبر العالم، وهذا أحد مظاهر “العولمة”. ويشارك علم الاجتماع في دراسة هذه الظاهرة، أي التغيرات المستمرة، عبر مفهوم متخصص يسمى “التغير الاجتماعي” (Social Change). فما المقصود بالتغير الاجتماعي؟

يُقصد بالتغير الاجتماعي التبدل العميق والمستمر في البناء الاجتماعي. أي، تغيرات في المعايير التي تحدِّد ما هو مقبول وغير مقبول في تفاعلاتنا اليومية، وكذلك تغيرات في الرموز الثقافية ومنظومات القيم ومؤسسات المجتمع، سواء أكانت مؤسسات رسمية، كمؤسسات التعليم مثلاً، أو مؤسسات غير رسمية، كمؤسسة الأسرة. ولو اتجهنا إلى مجتمع في عالم اليوم فسيسهل علينا ملاحظة شواهد على هذا التغير. أي إن التغير الاجتماعي اليوم يعم العالم وبدرجات متسارعة. فما الذي جعل التغير بهذه العمومية؟

إن التغير كميزة لطبيعة الإنسان الاجتماعية، من أكبر ما يميز جانب الإنسان الاجتماعي عن جوانبه الأخرى هو تغيره، فالكائن الإنساني من حيث مكوناته النفسية والبيولوجية ثابت لا يتغير بتغير الزمكان، فلا فرق  بين إنسان الماضي وإنسان الحاضر وإنسان المستقبل من هذه الناحية، لكن من حيث مكوناته الاجتماعية والثقافية يختلف باختلاف الزمكان واختلاف المكتسبات التي حصَّلها عبر أطوار تنشئته الاجتماعية، وهذا ما جعل الباحثين يطرحون سؤالا إشكاليا في هذا الصدد، مفاده: إذا كان الإنسان تتقاسمه أجزاء طبيعية ثابتة وأجزاء مكتسبة متغيرة، فما هي حدود كل من الطبيعي والمكتسب؟ وهل هي حدود قارة أم متداخلة فيما بينها؟ وما هي خصائص كل من الثابت والمتغير؟ وهل هناك معايير للفصل بين التغير المشروع من غير المشروع؟

وكذلك التغير الاجتماعي كظاهرة سوسيولوجية: قد لقي التغير الاجتماعي إقبالا كبيرا من قبل الباحثين المهتمين بهذا المجال، لما يحدثه من فوارق شاسعة في البنى الفكرية لأجيال المجتمع التي تعد أبناء بيئتها الاجتماعية من الدرجة الأولى، لأن كل إنسان إنما هو ابن بيئته كما أكد ذلك غير واحد من علماء الاجتماع، وكما يقول كارل ماركس: “وجود الإنسان هو الذي يعين فكره، وليس فكره الذي يعين وجوده” فإذا ما طرأ تغيير ما على الواقع العمراني فإنه يتسرب بالضرورة إلى الواقع الذهني، كما أن التغيير الذي يحصل في هذا الأخير بدوره ينعكس على المجتمع في حُلّة مغايرة، فيُحدث زعزعة في مختلف البنيات الاجتماعية التي تتطلب شيئا من الركون والاستقرار، بل قد يؤدى أحيانا إلى احتدام صراعات متواصلة بين أفراد المجتمع.

الجيل الجديد ينكب على كل شيء جديد، لا يهمه فيه جودته ولا صلاحيته بقدر ما يهمه كونه جديدا عليه وعلى مجتمعه، لأنه يرى فيه تميزه واستقلاليته ومستقبله وذاته كلها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة