د. عادل الثامري
يشتغل التلاعب بالصور الذهنية باعتباره أداة قوية للمشاركة العاطفية والفكرية. تقدم قصيدة عبد الزهرة زكي (حيث لم يسقط المطر) مثالاً على كيفية الاستفادة من الصور الادراكية لخلق تأمل عميق في التوقع والغياب. يستجلي هذا التحليل كيف تشارك صور القصيدة مستويات متعددة من المعالجة لتحقيق تأثيرها الجمالي والعاطفي.
يؤسس السطر الافتتاحي للقصيدة، «ليس كافياً للغيمة أن تكون سوداءَ لتمطر»، تنافرًا أساسيًا في النص. تعمل هذه الصورة الأولية على تشغيل أنظمة المعالجة البصرية للقارئ وتتحدى في الوقت نفسه الارتباطات المتوقعة بين السحب الداكنة وهطول الأمطار. التوتر الادراكي الناجم عن هذا التوقع المخالف هو بمثابة أساس لاستكشاف القصيدة للوعد الذي لم يتحقق.
وبوساطة التأطير الزمني الدقيق – «أربعة أيام وثلاث ليالٍ» – يقوم عبدالزهرة زكي بتنشيط بنى الذاكرة العرضية في ذهن القارئ. تسمح هذه السقالات الزمنية للقراء ببناء وحفظ تمثيل عقلي مستدام للانتظار المطول. تعزز الإشارة المتكررة إلى هذا الإطار الزمني في القصيدة المسارات العصبية المرتبطة بالتوقع والترقب، مما يعمق استثمار القارئ العاطفي في المطر المتوقع الغائب.
تبني القصيدة مشهداً حسياً معقداً عبر طبقات متعددة من الصور التي تتضافر لخلق إطار إدراكي مركب ومتعدد الأبعاد. كل طبقة من هذه الطبقات تضيف عمقاً جديداً للمشهد وتسهم في بناء التجربة الشعرية الكلية. هذا البناء متعدد الطبقات لا يقتصر على مجرد التراكم، بل يخلق شبكة من العلاقات المتداخلة التي تثري التجربة الذهنية للقارئ.
على المستوى البصري، نواجه مشهداً قاتماً تهيمن عليه عناصر طبيعية في حالة تأزم: غيوم كثيفة تحوم في السماء بشكل ينذر بالخطر، وأشجار عارية تقف شاهدة على المشهد في مواجهة السماء المتجهمة. يكتمل هذا المشهد القاتم بصورة الورق الميت المتناثر، وغياب الشمس التي تمتنع عن الإشراق، مما يعمق الإحساس بالظلمة والكآبة. تشكل هذه العناصر البصرية الطبقة الأساس للبنية الإدراكية في القصيدة، اذ تخلق صوراً ذهنية فورية وحيوية تترسخ في ذهن القارئ.
لا تقف هذه الصور البصرية عند حد كونها عناصر وصفية، بل تعمل كمرتكزات لمعانٍ رمزية أعمق. فالغيوم الكثيفة المهددة تتجاوز كونها ظاهرة جوية لتصبح رمزاً للتهديد والخطر المحدق، والأشجار العارية تتحول من مجرد مظهر طبيعي إلى رمز للضعف والانكشاف، والشمس الغائبة تصبح رمزاً لغياب الأمل والنور. هذا التحول من المستوى الحسي المباشر إلى المستوى الرمزي الأعمق يخلق طبقة ثانية من المعنى تثري التجربة الشعرية وتعمق تأثيرها في المتلقي. وتضيف الصور الحركية بعداً عميقاً عبر تصوير السكون في ثلاثة عناصر طبيعية متداخلة: “الهواء ساكناً”، و”الغيم راكد”، و”الريح قد مضت”. هذه العناصر لا تقدم مجرد وصف بصري للمشهد، بل تشرك الإدراك المجسد للقارئ في تجربة حسية متكاملة. حين يتلقى القارئ هذه الصور، يستحضر في جسده وذهنه الإحساس بالسكون المطلق والتوقف التام للحركة. تتجاوز هذه التجربة الحسية مجرد المعالجة البصرية للكلمات، إذ تخلق حالة من التواصل العميق مع حالة السكون والترقب التي يصورها النص.
أما الصور المكانية، فتأتي لتكمل هذا الإطار متعدد الطبقات عبر تأسيس علاقات رأسية محددة في المشهد. تتجلى هذه العلاقات بوضوح في حركة الأشجار المتطلعة نحو التراب تحتها، وفي ارتفاع الرماد/السحب في الأعالي. هذا التسلسل المكاني المعقد يتطلب من القراء جهداً ذهنياً للتنقل بين مستوياته المختلفة – من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل – مما يخلق خريطة إدراكية غنية تتجاوز البعد المكاني البسيط إلى فضاء دلالي أكثر تعقيداً وعمقاً.
تخلق القصيدة ما يسميه علماء النفس “المحاكاة العقلية”، ويتطلب من القراء الحفاظ على تدفقات الصور المتعددة ومعالجتها في وقت واحد. ويتجلى هذا بشكل واضح في مشهد النظرات المتبادلة بين الأشجار والتراب “وكانت الأشجارُ تتطلعُ إلى الترابِ تحتها / وكان الترابُ تحتها يتطلعُ إلى الأشجار”. هذا المشهد يتطلب من القارئ وعياً مكانياً معقداً وقدرة على التنقل بين وجهات النظر المختلفة. تتميز القصيدة بتشكيل بنية ذهنية متحركة، تدعو القارئ للمشاركة الفعالة في بناء الصورة الذهنية للمشهد وتعديل هذه الصورة مع تطور الأحداث وإعادة تشكيل المشهد الذهني وفقاً للمعطيات الجديدة. هذه العملية المعقدة تتطلب من القارئ القدرة على تخيل المشهد بأبعاده المكانية وفهم العلاقات المتبادلة بين عناصر المشهد والتحولات في وجهات النظر والربط بين المشاهد المختلفة في إطار متكامل. يمكن تشبيه هذه العملية بمسرح ذهني متحرك، اذ تتحرك الكاميرا الذهنية بين الأشجار والتراب وتتبدل زوايا النظر بين الأعلى والأسفل وتتكامل المشاهد لتشكل صورة كلية متناسقة. هذا التصور الديناميكي يخلق تجربة قراءة غنية تتجاوز مجرد فهم الكلمات إلى بناء عالم متكامل في ذهن القارئ، ما يعزز التجربة الشعرية ويعمق أثرها العاطفي والفكري.
ويستغل الانتشار المنظم لزخارف الغياب في القصيدة – المطر المفقود، والشمس الخفية، والطيور المغادرة – ميول التعرف على الأنماط الادراكية لدينا مع خلق فجوات تصورية في آن واحد. تستدعي هذه الفجوات ما يسميه علماء النفس المعرفي «انتهاك التوقع»، وهي حالة عقلية تزيد من الانتباه والمشاركة العاطفية. لا يصبح التوتر بين الحضور والغياب مجرد عنصر موضوعي وانما تجربة حية للقارئ.
على المستوى الاقتراني، تعمدت القصيدة تعطيل الشبكات الدلالية المتوقعة بطرق قوية. تظهر السحب دون هطول الأمطار، والأشجار مجردة من أوراقها وطيورها المتوقعة، وتظل السحب السوداء ثابتة بدلاً من الوفاء بوعدها بهطول الأمطار. هذا الانتهاك المنهجي للاقترانات الطبيعية يخلق حالة ادراكية تعكس التجربة العاطفية للتوقعات التي لم تتحقق. إن القصيدة تبين كيف يمكن للصور الذهنية أن تكون جسرا بين الفهم التصوري والصدى العاطفي.
وبواسطة هذه الانتهاكات المنظمة بعناية للتوقعات، تخلق القصيدة شبكات اقترانية معقدة في الذاكرة الدلالية:
– يؤدي وجود السحب إلى توقع هطول أمطار لم يتحقق بعد
– الأشجار، التي ترتبط عادة بالحيوية والسكن، تنتصب عارية ومهجورة
– تظل السحب السوداء، التي تنذر عادة بهطول أمطار وشيكة، ثابتة بشكل محبط
يعد تكرار المقطع الأخير للركود والغياب “الغيمُ راكدٌ حيثُ هو،/ وحيثُ لم يسقط المطر” بمثابة مرساة ذهنية، مما يعزز نمط الصورة المركزية مع إغلاق حلقة المحاكاة العقلية التي أنشأت في بداية القصيدة. يوفر هذا الإغلاق قرارًا يؤكد بشكل متناقض على عدم وجود حل في سرد القصيدة.
إن قصيدة «حيث لم يسقط المطر» تمثل مثالًا على كيفية تسخير عمليات التصوير الادراكي في الشعر لخلق تأثيرات عاطفية وفكرية عميقة. ويُظهر بناء القصيدة الدقيق للصور الذهنية، والتلاعب بالتوقعات، وتكاملها مع التيارات الحسية المتعددة، قوة الصور لإشراك العقل والعاطفة. وبهذا الاستخدام المركب للصور يخلق عبد الزهرة زكي نصا يتماهى مع تجارب القراء في الانتظار والتوقع وعدم التحقق.
شعرية الغياب الصورة الادراكية في «حيث لم يسقط المطر» للشاعر عبد الزهرة زكي
التعليقات مغلقة