التشكيلي الموصلي عضيد طارق:
حاوره سمير خليل
كطائر العنقاء تنهض من بين الرماد لتعود ايقونة للجمال والابداع، الموصل، ام الربيعين، الحدباء، تنفض عنها غبار الظلام لتعود مضيئة مشرقة بعد ان هب جميع اهلها لإعادة الحياة لما دمرته عصابات الظلام، الكل يبني، الكل يزرع لتعود المدينة زهرة للربيع، المبدعون يساهمون في هذا البناء، بكلمة، بأغنية، بفرشاة ولون، يرسمون صورة زاهية لمدينة جريحة.
عضيد طارق، فنان تشكيلي موصلي، ارتبط بمدينته التي عمدت موهبته ونضوجه فظل يحمل جميلها ينثره الوانا للفرح والامل، عضيد طارق، التشكيلي المثقف، حاورناه عن فنه ومدينته التي تنهض من جديد نحو الحياة ونسأله اولا: هل استعادت الموصل عافيتها ثقافياً وفنياً ؟ كيف هو حال التشكيل الموصلي اليوم ؟ بماذا يتميز عن غيره؟ يجيب :
الموصل عبر تاريخها الطويل تعرضت لحصار واحتلالات كثيرة ، وكانت كالعنقاء تنهض من رماد يبابها وتستعيد قواها، الموصل هي اعرق الحواضر في الشرق ، بعد التحرير مباشرة ظهرت العديد من المنتديات والمقاهي الثقافية والمكتبات المزدهرة ومجاميع من شباب ومنظمات انسانية داعمة، جمعيهم تبنوا فكرة احياء التراث واستعادة بهاء وبريق وجه الموصل الحضاري ، ولكن ارى ان هناك في المقابل الكثير مما يتطلب انجازه على مستوى الديمقراطية المتزنة وتبني قيم واخلاقيات وضوابط قانون ترتقي بالانسان وتحافظ على تراثه وحضارته ، مجتمع الموصل اصبح مؤمناً بإستئناف حياة جديدة ، وهنا اعتقد ان المسؤولية ملقاة على الشباب من المثقفين والمبدعين في جميع الاختصاصات وليس التشكيل لوحده ، كونهم رواد المرحلة المقبلة «.
ويضيف» اليوم ومادمنا في الحديث عن التشكيل ارى مستقبلاً واعداً لحراك تشكيلي مهم ، اعتقد ان ما يميزه عن غيره يتمثل في القدرة على التعاطي مع جميع مدارس الفن الواقعية المحترفة منها والحديثة التي تواكب مستجدات التحديث بذات الدفق من الاهتمام ، لان الرغبة كبيرة في استعادة ما تم فقده فهناك تدمير للمتاحف والنصب والآثار والتي شكلت في المعنى الاكثر قربا من الحقيقة هي اعدام تاريخ ، ثمة لوعة كبرى لم تعد خافتة ولا مكتومة ، فالتاريخ انبأنا بأن الوحشية ضد حضارة شعب طالما كان مصدرها غزو اجنبي ، هدفه المُرّكز محق الآخر، ماحصل في الموصل كان سابقة تقول شيئاً اخر، الذين حطموا تراثنا كانو يسكنون بيوتاً تجاورنا ، وناموا على وحشة اسرتنا بعد ان غادرنا ديارنا».
ويتابع» ماجرى جهالة مطلقة جعلت من الانسان آلة تحركها الانفعالات والانفلاتات . فلاغلو او تزييف للحقيقة عندما أُشير سابقاً ولاحقاً ان العراق مهد الحضارة والتاريخ ، هذا التاريخ الذي استهدف منذ احداث مابعد ٢٠٠٣ ابتداء من نهب المتحف الحضاري وسرقة محتوياته، في مدينة الموصل تكاملت الدراما الدموية باستهداف التراث الأثري الثري ، ومن كل ماهو تنويري وحضاري ، اعتقد وبالعودة لمحتوى السؤال نقول نعم استعادت الموصل عافيتها فنياً وثقافياً في ضوء منجز قيمي لا تخطئه العين المدركة ولا سيما بعد التحرير».
- وكيف يساهم التشكيل باعادة الروح للذائقة الموصلية التي جرحت مما مر عليها؟
« نينوى كانت مركزاً فنياً حضارياً ثقافياً على مر تاريخها وبعد الإنحدار المريرى ابان فترة احتلالها من اعداء الجمال وكائنات القبح كانت قد عانت الشحوب والافول، واليوم تعود لتزهر من جديد من خلال حراك فني ثقافي ابداعي بمختلف الاتجاهات اذهل الجميع ، وانا اتابع مجاميع شبابية بدأت تتلمس لها خطابا جماليا يؤسس لمرحلة انتعاش تشكيلي مقبل لا تخطئه العين المدركة، مشكلتنا اليوم هي في قيادات هذه المؤسسات الثقافية المركزية والتي تعاني من أمية المعرفة بالدور الذي يضطلع فيه الفن في بناء الانسان بعد النكبات وظروف الحروب ، فلا زال هناك مسؤولون يتعاملون بهستيريا مع من يخالفهم الرأي وهم معذورون لانهم يفتقدون الخيال وان امتلكوه فهو محدود» .
ويضيف اعُدُ هذا التراكم من الحراك الفردي والجماعي التشكيلي الشبابي هو ظاهرة ايجابية، وقد تبنى عدد من الشباب اعادة الروح للذائقة الموصلية بعد ان وجدوا تجربتهم الفنية في اتون محاولات جريئة واحداث عصف ذهني وفني ابداعي واع لمواكبة تطلعات ومسايرة تقليعات فنية ثقافية غادرناها شكلاً ومعنى طيلة سنوات من زمن احتلال المدينة من الظلاميين ولازلنا نقتات على بقاياها «.
ويتابع» اجد اليوم ان الشباب بمختلف تجاربهم اتفقوا على دفع زورق محبتهم لمنجز فني تشكيلي رصين باهداب عيونهم تقودهم عين مبصرة في البحث عن ذواتهم في مشتبك الاساليب ، الحراك التشكيلي اليوم في مدينة الموصل خطى خطوات رائدة على مستوى المهرجانات والكرنفالات والملتقيات،حقيقةً كان هناك عطش كبير لاقامة هكذا نشاطات فردية شخصية وجماعية تقوم بها لجان ابتدأت تطوعية وربما عشوائية في بادئ الامر واليوم اخذت ترسخ نفسها كحركة تشكيلية، بدأت بمتغير كمي وانتهت الى متغير نوعي يليق بسمعة الحركة التشكيلية والمشهد الثقافي العراقي عموماً ، باتجاه ترسيخ هوية واضحة المعالم» . - كمبدعين كيف واجهتم الهجمة الظلامية لعصابات داعش على مدينتكم العريقة ؟
«يخطئ من يعتقد ان الفنون تتراجع في اوقات الحروب ، مؤرخو الفن لهم رأي معاكس يفيد بحقيقة ان دافعية الفنان للتعبير عن نفسه وعن سخطه تكون أكبر وتقوده بالنتيجة للبحث عن طرق جديدة للمقاومة عن طريق الفن . وعليه فان كل الحالات الانسانية التي تلدها الظروف الاستثنائية تحفز ريشة الفنان المشبعة بالألم والحنين، حتى ان التخطيطات التي لم يتح للفنان رسمها كلوحة مكتملة بل بقيت على شكل اسكتش او فكرة في المخزون الداخلي للروح تكون عادة برحم الفرشاة وتحتاج لتلقيح عن طريق التحفيز والإستثارة ، فالحروب والثورات ومحطات النزوح والخراب والامكنة المثخنة بجراحات ليس لها سواحل كانت ازمنة محورية بالنسبة للفنون في العراق وبالذات الفن التشكيلي ليصبح العراق متحفاً لفن الموت».
ويضيف» وبما ان حقبة داعش كانت موتا مجانيا وفما لا يكف عن الصراخ لعموم الناس ، وجدنا الفنان التشكيلي يتعاطى مع هذا الحدث بعين مدركة وذاكرة تسجيلية انصبت على توثيق هذه الصور الذهنية لأحداث متتالية ، وقد وعى الفنان التشكيلي في نينوى دوره المبكر، سيما بعد انجلاء غمامة حقبة داعش فأنتج وثائق تاريخية لتلك الاهوال ووظف فظائعها في اعمال فنية برؤية عالية التعبير، المبدعين في مدينة الموصل مارسوا موتهم اليومي باعين مفتوحة وثقت كل عظائم الامور التي يندى لها جبين الانسانية ، فلم يكن هناك من الفنانين من يستطيع ممارسة اياً من اجناس الإبداع جهاراً نهاراً لان الاختصاصات الفنية كانت مكفرة ومن يزاولها يحكم عليه بالفناء وهناك على المستوى الشخصي رغبة كبيرة لتنفيذ بانوراما خالدة في مدينة الموصل تحكي للاجيال صمود مدينة طالما استعصت على اعدائها واستفاقت من رماد يبابها في كل محطات محنها التي عصفت بها، مشروع بهذا الحجم يحتاج لمقتضيات اولها ذائقة فنية وروح مسؤلية اخلاقية تجاه الاحداث في ذاكرة وضمير القائمين على مسؤولية البلد ومستقبله التاريخي والحضاري. - اي الموضوعات تحتل الاهمية الكبرى في رسوماتك ولماذا؟
«الدخلاء سرقوا وجه الحب من مدينتي ، هذا المقطع الزمني من تاريخ اح تلال انصار القبح واعداء الجمال جعلني اجمع الوجوه المتعبة وصور وجع الدمعة واجساد الفقراء وماتفصح عنه من هموم وجراحات ، كان المشهد مرتبكاً في ذهني قبل نزوحي، عداء ضد انسانية الانسان بالتزامن مع العهر في زمن طوفان الفاسدين ممن ساهموا برسم ملامح هذه المجازر، فاتجهت الى قراءة الوجع الانساني بروح الفلسفة الواقعية المسربلة بهمسات وانين وقهر الصور التي لازلت تخمش لي ذاكرتي، فالالم كان دافعاً ومحركاً للفعل الابداعي على مر الزمان يؤسس لتاريخ الشعوب واحداثها فيتحول من بعده الذاتي والفردي الخاص الى ابعاد ابداعية تلخص الواقع وتؤرخ للحدث» . ويضيف « اعمالي الفنية في هذه الفترة ، تدور في افلاك المواضيع المتعلقة بالمهمومين المقهورين والجياع من الاطفال الذين يعتصرالفقر رطب اعينهم ، وهنا اقول بات الالم يشكل المقاربة الاقرب لاجواء اللوحة الفنية للخطاب التشكيلي العراقي جراء الحرب والارهاب ماجعل الابداع الفني وطرق استقباله وانتاجه تغوص في لجة من مفردات القهر والاحساس باللاجدوى». ويتابع « لوحاتي الاخيرة تجولت بين صدر الالم ونحر القهر الذي عانته مدينة الموصل ولازالت تئن تحت وطأة الاحساس باللامبالاة وعتمة الااهتمام ، وهنا لابد من التذكير ان اهتمام الفنان بالموضوعات المتعلقة بإنسانية الانسان هي الاكثر الحاحا على ذاكرته التوثيقية، وهناك في الضفة الاخرى موضوعات تبحث في الجمال والتفائل والأمل الذي يولد من ركام الوجع ، رسمت المرأة بجميل ازيائها وفي لقطات منتقاة ، والطبيعة بسرها وسحرها الأخاذ ، الواقعية بالنتيجة هي الفضاء المحبب التي تدور فرشاتي في اروقتها وحنايا جمالياتها» .
سيرة ذاتية:
عضيد طارق ينحدرمن سلالة فنية ، والده احد ريادات الفن التشكيلي وهو الفنان التشكيلي طارق عتو، ومن المجايلين لرواد الفن في الموصل المرحوم نجيب يونس والمرحوم راكان دبدوب والمرحوم ضرار القدو، بداياته كانت مفعمة بالمحطات التي تشكلت معها كينونته الفنية ، فكانت تجربته الفتية في صبواته الاولى تدفعه للبحث عن الجمال حتى وان كان ذوباً في ريح ، بعد انتقال الجينة الوراثية من والده له مباشرة ومن بعدها لابنائه المتخرجين من كلية الفنون الجميلة قسم الفنون التشكيلية.
حصد الكثير من الجوائز على المستوى المحلي والدولي والمشاركات في المعارض الفنية المتخصصة في الفن التشكيلي ، وكان للمشاركات المحلية الفسحة الاكثر اتساعاً من خلال مسؤوليته في نقابة الفنانين في نينوى، مسيرة فنية امتدت لما يزيد عن خمس وثلاثون سنة من العمل المتواصل الدؤوب فكانت محطات المعارض الفنية هي المساحة الخضراء والارض الخصبة التي اورقت فيها بذور مشاركاته ، لمعارض في الرسم والملصق ومعارض اخرى تبحث في اجناس متعددة في فن التشكيلي.