د. جليل ابراهيم الزهيري :
هناك خطان متداخلان يتصاعدان معا ليشكلا شجرة الثقافة الانسانية العظيمة، هما، خط القيم الانسانية المجيدة التي تستند الى ان الانسان هو القيمة العليا وهو من يستحق ان يضحى من اجل سعادته وحريته، وخط السلام وقيم المحبة والتسامح. وبدون اي منهما تصبح الثقافة الانسانية وسيلة لاستعباد الانسان بأسم الفكرة والكارزما وبأسم اصنام يدخل فيها الوطن السور. وتصبح الكراهية والحرب سمة بشعة لمفرداتنا الثقافية.
اذا إفترقت الثقافة عن الضمير، فإنها تفقد صفتها كنتاج ووسيلة لبناء الذات والوعي الانسني والاجتماعي والروحي، وتفقد حضورها كثقافة، التي تمثل خلاصة الانتاج الانساني عبر عصور تفاوتت فيها مساحات الظلمة والنور وتضحيات آلاف من حملة مشاعل الفكر وشهداء التنوير الذين كان لهم دور شجاع في نقل البشرية من عصور الظلام الى النور والحضارة.
ووطننا لكي تستقيم فيه الحركة الثقافية وتشكل دافعا اساسيا في عملية تشكيل الحاضر، هو بحاجة الى مثقفين شجعان، وأقصد هنا شجاعة التعاطي مع الضمير، يستلهمون نماذج من تأريخنا الثقافي أمثال (د. علي الوردي) الذي عاش بسيطا لكنه كان شجاعا يفضح وعاظ السلاطين الذين يرتدون ثوب الثقافة، ويقدمونها قربانا على مذبح التقرب الى السلطات ونيل فتات الموائد.. نحن نحتاج الى مثقفين، عندما يخيرون بين التخلي عن الضمير والتحول الى بوق لذوي الجاه والسلطة أيا كان لونهم، وبين أن يتركهم ويقول الكلمة الحقة، فإنه سيختار الخيار الثاني.. نحن بحاجة الى مثقفين حقيقيين شجعان لا يخافون في الحق والانسانية أحد، ولا نريد أنصاف مثقفين يميلون مع السلطة والجاه كالظل.
ان الثقافة هي مسؤولية تأريخية وأخلاقية للمثقف مسؤولية خطيرة، لانه أمل هذا المجتمع، وعينه المبصرة التي يشع منها نور الانسانية وقيمها السامية، وتخليه عن نشرها لاي سبب، هو خيانة لهذه المسؤولية، ويعني ان البلد والمجتمع سيغرق في ظلام التخلف والجهل وسيعود القهقرى الى شريعة الغاب والكراهية والعداء..
ان متثيقفو اليوم المدافعون بإباء عن شرف الايديولوجيات والعقائد يحولون الانسان الى وقود لاحلامهم الطوباوية، ويؤسسون لثقافة الكراهية التي تعارض النزعة البشرية للارتقاء بالانسان وقلع جذور الماضي الحيواني العدواني من داخله..
ويمكن اعتبار ثقافة الكراهية نتاجا لعجز الخصوصية أيا كانت ( قومية ، عرقية ، طائفية او غيرها ) عن ابراز عناصر قوتها الداخلية في مواجهة حقيقة الاحتكاك المستمر في العالم بين هذه المكونات.. حيث تلجأ الكثير من الايديولوجيات القومية والطائفية والفكرية الى عنصرين للمحافظة على «أمنها الايديولوجي» انطلاقا من العقلية التقديسية وغير القابلة للتلاقح والتطور والتفاعل مع الاخر والاخذ والعطاء معه .. العنصر الاول هو التشدد واحاطة الايديولوجيا بكل وسائل «التحصين» اتجاه «العدو الخارجي»، بحيث ان ظهور أي صوت مغاير، حتى لو كان جزئيا يمكن ان يدفع القائمين على حمايتها يقيمون الدنيا ولا يقعدوها، والعنصر الثاني هو الانطلاق في بناء النظرة الخاصة من انتقاد وتحقير وتخطئة الاخر .. بدلا من اعتبار الاخر الحلقة الاولى في سلم الفكر التي تستحق التقدير و التطوير ..
وتعبر ثقافة الكراهية عن حالة كبيرة من الضعف والانغلاق على الذات المزعزعة.. ويمكن ان تسوق ثقافة الكراهية اصحابها الى الاندفاع في العداء للاخر وتوجيه كل قواهم الى تدميره وإلحاق الاذى به، وكإن لا سبيل في هذا العالم الى تعايش الفرقاء دون دمار واذى.
ان ثقافة الكراهية هي ثقافة مسخ تخالف الشريعة الحضارية التي قامت وتقوم على استكمال البعض للبعض لخلق بناء انساني متكامل يساهم فيه الجميع..
وبالعكس من هذه الثقافة تقف ثقافة السلام لتبرز الوجه الجميل لهذه الخصوصية، وتضمن لها أمنها واستقرارها ونموها، ككائن له شخصية مستقلة لكنها لا تؤكد خصوصيتها عبر العزلة، بل من خلال التفاعل البناء والاخذ والعطاء والقدرة على التعايش مع الاخر المختلف.
ولا تعني ثقافة السلام ما يناقض ثقافة وروحية العنف والقوة فقط، بل وتعني حاجة ماسة لتأسيس مجتمع الديمقراطية بعد سقوط نظام صدام القمعي. فرغم الطيبة العراقية وتعايش أجناسه وقومياته ومذاهبه وطوائفه المختلفة في سلام ووئام ، فأن تاريخ هذا المجتمع مر بدوامة عنف واحتراب لم تغيِّب ثقافة وروحية السلام فقط، بل جعلت النفسية العراقية تتراوح بين الخوف الصامت والقوة المتسلطة التي لا ينتهي عطشها للعنف. وصار هذا التاريخ عقبة نفسية كأداء في طريق السلام الاجتماعي العراقي، الذي باتت تهدده سنوات القمع الطويلة والرغبة المناهضة في الانتقام والثأر، وصار من الصعب إقناع الضحية وهي الشعب العراقي بقبول ثقافة السلام وتحقيق مجتمع امن، مستقر لا يسمح لأحد بانتهاك حقوق إنسانه تحت أي ذريعة غير قانونية..
أن مهمة إشاعة ثقافة وروحية السلام هي مهمة صعبة وغاية في التعقيد يجب البدء فيها من النخب الثقافية، التي يجب أن تتعود وترسخ الحياة التعددية وقبول الأخر والتعامل والتعاون معه وتبادل الآراء والملاحظات والانتقادات خدمة لهدف السلام الأسمى وهو المحافظة على قيمة الإنسان التي لا يجب الإساءة لها والمحافظة على حقوقه المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحقه الطبيعي في مجتمع خال من العنف. ويجب أن تتحول قيمة الإنسان إلى هدف مرحلي ومستقبلي للنخب الثقافية في مجتمعنا، وهذا يتطلب أسلوبا منهجيا جديدا يحرر الإنسان من ربقة العبودية بأي صيغة وتحت أي شعار وتحويل الخطاب الثقافي إلى أطار حر ينطلق من حرية الإنسان وخلاصة من الاضطهاد والفاقة وعبودية الحاجة وتحويل مؤسساته إلى واحة نموذجية للسلام وثقافته، وبداية مجتمع ينبذ العنف.