بثينة سليمان
عادَ الجنديُّ من الحربِ، لا منتصرًا ولا مهزومًا. توقفت الحربُ، وكان على جميع الجنودِ في كل الجَبَهاتِ أَن يعودوا إلى بلادِهم ومُدُنِهم وقراهُمْ. كان الجندي متعَبًا حين نزل من الباص الذي يُـقِلُّ الجنود العائدين إلى أوطانهم، على ظهره حقيبةٌ صغيرةٌ يحمل فيها مشاهدَ المعاركِ التي خاضها، وصورَ زملائِه الذين سقطوا في الحرب. مشى في الطريق وهو يسترجع شوارع ومنازلَ مدينتِهِ الصغيرة. لم تتأثرْ بالحربِ لكنها بدتْ مهجورةً وكئيبةً. كلمّا اقتربَ من بيته تهيَأَ له صوتُ أمِّهِ نديًا هادئًا. لم يغبْ صوتُها عنه ولا دُموعُها التي نزلتْ على خدَيْها وهي تودّعُهُ وتشدُّ على عزيمتِهِ وتشجعُهُ. قالتْ له: سأنتظرُكَ وستعودُ. كان محظوظًا أن سَلِم من أجلِ أُمِّه، التي كلما ضَعُفَ قلبُه وهو في المعركة، أو خارتْ قُواه، تذكر صوتَها وهي تقولُ له: أنتَ بطلي وستعودُ بطلًا. لكنه أدركَ أنّ الحربَ بشعةٌ لأنّها تسْرقُ الأرواحَ ومستقبلَ الناسِ. حين صارَ على مسافةِ بيْتيْن عاهدَ نفسَه ألّا يُحدثَها عن الحربِ ولا عن مشاهدِ الدمارِ ولا عن خسارة ِالأرواحِ. سيخبرُها عن صوتِها الذي ظلّ في أذنيْه يطمئنه، وعن بسمتِها التي كان يراها في شمسِ كلِّ نهارٍ، وكلماتِها التي ما غابتْ عن قلبِه. سيحدّثُها عن شوقِه إلى يديْها تمسّدان شعرَه، وإلى طعامِها وخبزِها وسهراتِ الليلِ قريبًا منها. قرعَ البابَ، سمعِهَا تنادي باسْمـِه. يا الله! إنّه قلبُ الأمِ، البوصَلَةُ التي لا تخطئُ. عرفتْ أُمُّهُ بقدومِهِ. شعرَ الجندي تلك اللحظةِ بأنه ذلك الولدُ ابنُ العاشرةِ، حينَ كانتْ تناديه بعدَ نهارٍ طويلٍ من اللعبِ أنْ يُسْرعَ إلى الاستحمامِ قبلْ أنْ يتناولَ العشاءَ.