الفنان ستار كاووش في المنطقة الوسطى بين الذكر والانثى!

محيي المسعودي
شهدتُ له ذات عام معرضا فنيا في العاصمة الاردنية عمان وقد أدهشني اسلوبه الفريد وبصمته التي لا تشبه أي فنان عراقي لما فيها من تفرد في الاسلوب والموضوعات والاشكال والمضامين، ولا ازعم انه الافضل بين الفنانين العراقيين المقيمين في العراق او المغتربين ولكنه المختلف عنهم.وقد افتتح المعرضآنذاك تحت عنوان ” نساء التركواز ” وضم عددا كبيرا من أعماله.
لم يغادر الفنان ستار كاووش تلك الخصائص والقيم الفنية التي عُرف بها خلال مسيرته الفنية، وقد ظلّ اللون وخاصة الازرق المتدرج فاعلا في جميع الأعمال التي يعرضها موحِدا ، متوحدا , متكاملا، متماهيا , ليس مع بعضه البعض بل مع عواطف ومشاعر واحاسيس الفنان وافكاره وكان اللون بمثابة البيئة الواحدة الموحدة لكل اعماله دون استثناء، واللون عندما يحتل السطح الخارجي للأشكال كالأزياء مثلا نجده يرتفع من خلفية اللوحة ويمتد بهدوء وخلسة على سطح اللوحة , دون أن يثير الانتباه في حركته من الخلفية الى السطح الخارجي .ومنذ تابعت الفنان ستار كاووش رحتُ ابحث في مسيرته الفنية فعرفت انه قد انجز ما يزيد عن الـ 1000 لوحة او عمل واقام اكثر من 27 معرضا شخصيا وما يناهز الـ 80 معرضا مشتركا وهو حضور كبير جدا في عالم الفن التشكيلي .وكانت لوحاته تتنوع بين التشخيصية، والتعبيرية، والوحوشية، والآرتديكو، والفن الجديد وغيرها من الاساليب والمدارس الفنية التي تأثر بها . ولكن الذي يشاهد عملاً واحداً لكاووش يستطيع أن يتعرّف بسهولة إلى بقية أعماله الفنية حتى ولو لم يوقعهاالفنان،وهذه هي بصمته الفنية.ويبدو أن كاووش وجد ضالته في الفضاء المفتوح حول اللوحة، فوظفه في مضمون وشكل اغلب لوحاته.كما تميز كاووش بألوانه الحارة والصريحة في لوحات تعنى بذلك وتميز ايضا في رسومه وتخطيطاته التي ينفّذها بقلم الرصاص أو الحبر الأسود اضافة للوحاته المبهرجة الزاهية. وقد هيمن اللون على أغلب أعماله-غير التخطيطية – فيالشكل وامتد تأثيراللون الىالمضمون . لا, بل حلّ محلهما في اغلب اللوحات وكان بتأثيراته على المتلقي يُوصل الرسالة التي وضعها او ضمنها الفنان في كل لوحة، وأعمل كاووش اللونَ بكل تشكيلاته وامتدادته بالتوازي مع درجة حرارة عاطفة ومشاعره , ليس في لحظات انجاز اللوحة وحسب بل في عموم حياته . ويظل المدهش في أعمال كاووش أن درجات حرارة اللون متوازية تماما – من حيث تأثيرها وقوتها – مع مستوى موضوعة العمل، في الانفعال والتفاعل وحرارة وبرودة العواطف والمشاعر الموضوعة فيها او التي صاغتها اللوحة بموضوعها. وبقي الانسجام بين الفنان وأعماله من جهة ومضمون وشكل وألوان اللوحات من جهة أخرى هو الثيمة الأكثر وضوحا والأكثر تمييزا له عن غيره. وقد قدم كاووش ” مثلا” نساءه التركوازيات بعاطفة تثير الانتباه، وجاء ذلك من خلال تدني حرارة هذه العاطفة حد البرودة أحيانا وهذه خاصية أو ثيمة أخرى يختلف بها كاووش عن أقرانه من الفنانين العراقيين والعرب الذين نجد أعمالهم تحمل فورة عاطفية تصل عند بعضهم أقصى درجات الشبق والعصبية وانفلات المشاعر وتأجج الغضب. كانت نساء ورجال كاووش لا يعرفون توقد المشاعر والعواطف المعروفة لدى الإنسان الشرقي، والتي تصل ذروتها اللاهبة في لحظات معينة !, وكانت بعض الأعمال قد جسدت هذه الحال . وتبعث أعمال الفنان رسائلها الى المتلقي وهي تقول: إن هؤلاء النسوة حالمات مترفات يعشن في جو مخملي بالغ الهدوء والبرودة الجسدية الجنسية ولا يمتلكن تلك العواطف والرغبات الجياشة والحارقة التي تحملها المرأة الشرقية. ويصل الحال بالمتلقي الى الظن بأن نساء التركواز” مثلا” نساء باردات جنسيا وأن الرجال هم الآخرون ليسوا فحولا كما هي الحال مع الرجل الشرقي الذي جسد فحولته العارمة معظم الفنانين العرب, لقد اقترب الرجل عند كاووش كثيرا من خصائص وملامح وشكل الانثى “المرأة”، فيما نأت المرأة عن خصائص المرأة الشرقية في عنف وحرارة الشهوات وعذابتها, لقد تقارب الرجل والمرأة عند كاووش والتقيا في منطقة وسطى بين الذكورة والأنوثة ” الخنثى” منطقة تثير تساؤلات كثيرة حول هوية الكائن الذي أطل علينا به الفنان في أعماله وخاصة نساء التركوازوتساؤلات حول الأسباب التي جعلت الفنان يقف في هذه المنطقة وهو المنحدر من بيئة ما عرفت ” يوما ” الوسطية في الحياة العاطفية . لقد ظهرنّ نساء كاووش وكأنهن امرأة واحدة – بطلة في أفلام مختلفة – أنف مدبب شفاه حمراء ذات شكل مثلث ملامح هادئة، استسلام، برود، حلم، توهان، ويبقى السؤال القائم هو : هل خففت البيئة الهولندية بكل مكونتها من توقّد كاووش العاطفي وهل نزعت عنه النزق والانفعال الذي يلازم أقرانه من الفنانين العراقيين والعرب الذين لمّا يزالوا يعيشوا معطيات بيئتهم الشرقية حتى وهم في أوروبا بل في هولندا كالفنان حليم مهدي صاحب عمل بيت الزنا الذي عرضه في جاليري 4 جدران ذات عام أيضا في العاصمة الاردنية عمان أم إن ستاركاووش مختلف في الاصل !؟
وتحتل المرأة مكانة خاصة ومميزة في حياة كاووش الفنية فقد رسم جميع النساء اللواتي أحبهن وآخرهن حبيبة القلب او كما يحلو للبعض بنعتها (بثينة ) والتي دخل معها القفص الذهبي عاشقا وهي السيدة آلي تشوكرAlieTjoelker التي رسمها في الكثير من لوحاته من بينها «زهرة آلي» وهي – لوحة معبّرة تقود الناظر إلى التماهي مع الطبيعة، وتنفتح على فضاء الحب المتوهج إلى أقصى مدياته-كل هذا لان الفنان يتمتع بسمة إخلاصه للفن، والتفرغ له، والتماهي فيه والكتابة عنه سواء على شكل عمود فني في الصحف كما يفعل وله عشرات المقالات الادبية والفنية او على شكل كتاب وله ما لا يقل عن أربعة كتب.
ويبدو جليا تأثير فيغر «الملكة» في ورق اللعب على أعماله وتجلتالاستفادة من هذا “الفغر” منذ بداياته الفنية وتظهرهذهالإفادة ايضا من خلال الخطوط المرهفة التي نراها في مجمل أعماله التشخيصية التي تقوم على ثنائية المرأة والرجل.
لوحة كاووش الفنية تتمتع بانسيابية واضحة في الخط واللون والتكوين إضافة إلى بعض العناصر الرمزية مثل القناع والكتاب والقط، والتفاحة، وغير ذلك من مفردات فنية تضفي البهجة على ايقاع اللوحة وتأثيرها على المتلقي.وتشعر عند الاندماج مع لوحاته كأنك تعيش اجواء قصص ألف ليلة وليلة.
الأدباء والكُتّاب هم الوسط المفضل للفنان كاووش فهو يطمئن إليهمويستوحي منهم وصديقاً لبعضهمويتابعهمويقرأ كتبهم، ويشاركهم نزعتهم الأدبية، ويكتب مثلهم في عموده الأسبوعي الذي يؤهله لأن يكون الفنان الكاتب والكاتب الفنان أيضا. وتتجلى علاقته بهؤلاء الادباء والفنانين من خلال البورتريهات الشخصية التي رسمها في كتاب «نساء التركواز» ومنهم الشاعر بدر شاكر السياب، والشاعر أنسي الحاج، والمخرج صلاح القصب، والروائي حميد المختار، والروائية لطفية الدليمي، والشاعر خالد مطلك، والشاعر عبد الزهرة زكي، والناقد السينمائي علاء المفرجي، والشاعر موفق السواد وسواهم من المبدعين العراقيين الذين يحفظ ملامحهم عن ظهر قلب.
مع كل هذا الصدق والتماهي مع الفن فاجأنا كاووش ذات مرة في عام 2012 بحديث لجريدة الرأي الاردنية بالقول:إن( الفن التشكيلي كذبة بصرية أو مكامن تسعى للإيقاع بالمتلقي وجذبه لعوالم اللون وتوريطه بموضوعاتها من اجل الوجود والبقاء …)
نال كاووش الكثير من الجوائز ومنها الجائزة الذهبية في بينالي الكويت 2017 عن لوحته المعنونة «عاشقان تحت المظلة» واعتبرته حينها لجنة التحكيم فناناً ذا رؤية خاصة وصنفته ضمن قائمة أشهرالفنانين الهولنديين المعاصرين. كما نال قبل هذا جائزة الرسّام الأول في جريدة «الجمهورية» في بغداد عام 1991. والجائزة الأولى في معرض الفن العراقي المعاصر عام 1993.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة