تأخذ سيرة الشاعر والقاص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986) صورة دائرية، كونه بدأ شاعرًا وظلّ يكتبه طويلًا، إلى أن انتقل في مرحلة لاحقة إلى كتابة القصّة والحكاية الخيالية والمقالة، ليعود مجدّدًا إلى فنّه الشعري الأثير، خصوصًا عند إصابته بالعمى.
إذًا بدأ بالشعر وانتهى إليه. وهذه البداية التي تتحد بالنهاية، أو امتزاج الحدود بينهما واختلاطها، تبدو بحد ذاتها إحدى قصصه ذات الطاقات الرمزية.
بورخيس القارئ الفذ الذي أخذت القراءة في حياته مكانة مركزية، إلى درجة أنه قال إن حياته ليست سوى الكتب التي قرأها فتح عيون العالم على الأدب في قارة أمريكا اللاتينية، وكان له الفضل في تأسيس نوع أدبي جديد هو القصة المقال، وكان دائمًا يرى أن أساس الأدب هو فانتازي.
عُرف عنه ولعه لا بالشعر كتابة وحسب، بل بالحديث عنه، ومن المعروف عربيًا في هذا السياق كتابه «صنعة الشعر»، الذي يُجمل فيه رؤاه الأساسية حول الكتابة الشعرية حيث يتناول الملحمة والصورة والمجاز واللغة الشعرية وغيرها من الموضوعات التي تتصل بفن الشعر إنتاجًا وتلقيًّا.
في «فن الشعر»، القصيدة المختارة من كتاب «مرآة الحبر» الذي أعده وترجمه الشاعر والمترجم المصري الراحل محمد عيد إبراهيم، نقف على الفهم البورخيسي للشعر لكن في صيغة شعرية.
نحدّق في نهرٍ من الوقت والماء
ذاكرين أنّ الوقت نهرٌ آخر.
نعرف أننا شاردون كالنهر
وأوجهنا تتلاشى كماءٍ.
نحس أن اليقظة ما هي إلا حلم آخر
يحلم أنه غير حالمٍ. والموت
ما نخشاه في عظامنا ليس إلا الموت
الذي ندعوه كل ليلةٍ حلمًا.
نرى في كل يومٍ وعامٍ
رمزًا لجميع أيام الإنسان وسنيه،
ثم نحيل انتهاك السنين
إلى موسيقى، صوتٍ، ورمزٍ.
نرى في الموت حلمًا، بالغروب
حزنًا مذهّبًا – ذلك الشعر،
ذلولٌ وخالدٌ، الشعر
يعود، كالفجر، والغروب.
في المساء، وجهٌ يرانا
ذات حينٍ من أعماق مرآةٍ.
والفن لا ند انه نوع من تكلم المرآة
تفشي لكلٍّ منّا وجهه.
قالوا بأن عوليس، ضجرًا من العجائب،
بكى والغرام لدى أن رأى إيثاكا
ذلولًا وخضراء. الفن هو إيثاكا،
الخلود الأخضر، لا العجائب.
الفن بلا نهاية، كنهرٍ دافقٍ
عابرًا، غير ساكن، مرآةٌ لنفس
هيراقليطس المقلب، والذي هو نفسه
لا الآخر، كالنهر المندفق.
- عن ألترا صوت