محمود خيون
يقول الناقد باسم عبد الحميد حمودي عن كتابه( رحلة مع القصة العراقية ) ..هذه الرحلة الثالثة مع العالم الذي أحب، الأولى بدأت مع كتاب( في القصة العراقية) عام ١٩٦٣ والثانية ارتادت مشارف القصة في كتاب( الوجه الثالث للمراة ) عام ١٩٧٣ ، وخلاصة الرحلة الثالثة بين أيديكم وقد تلونت عبر طريقين..واحد للرواية والثاني للقصة القصيرة…واحسب أنها وصلت إلى تصور نقدي جديد لم تصله الرحلتان السابقتان…فأن كان ذلك، اكون قد حققت بعض ما ينفع في متابعة هذا الفن الرائع الجميل ورصد ظواهره الجديدة…)
وفي باب( وصولا إلى نظرية نقدية ) يؤكد الباحث والناقد الكبير باسم حمودي بأن النقد الأدبي العربي المعاصر مازال في أقسام كبيرة منه محملا بجملة متناقضات تطرح قصورا في إدراك العلاقة بين النقد كعمل أدبي اعتيادي والنقد كعمل، خالق بعيد، تشكيل النص المنقود وفق أسس ومواصفات جمالية وفكرية، والنقد بذلك يفقد عنصر التواصل مع النص وكاتبه الذي لا يشعر بالفائدة، وبين النقد والقاريء، وبين النقد والعصر الذي ينتمي إليه..
ويستطرد الناقد البارع باسم حمودي بالتعبير…ان هدف الأديب طرح التجربة الإنسانية التي يكتبها على القاريء والعصر كائنا ما تكون الأهداف الشخصية الأخرى، أما هدف النقد فهو تقييم هذه التجربة وإعادة كشفها ولن يكون ذلك إلا بالفكر المعتمد على نظرية رائدة ولن يكون ذلك أيضا بقدرة الناقد الهائلة على الاستيعاب والهضم، وإعادة تشكيل العمل الأدبي المطروح.
ويضيف حمودي أن النقد ليس سلعة توزع بأشكال مختلفة ومتنوعة ولن يكون الكاتب ناقدا بحق إذا تعمد الكتابة السريعة التي تؤكل مرة واحدة كرغيف الخبز ثم ينتهي أثرها ،فالناقد في أفضل حالاته إنسان مفكر..
وفي هذا يذكرنا الناقد باحاديث كبار الكتاب من العرب والغرب بانهم كانوا لايفضلون أن يكتب على نتاجاتهم ناقد لايجيد القراءة الصحيحة لتلك الأعمال أو أنه قصير النظر والتحليل بأعتبار أن ما يكتبه كبارهم في فن القصة والرواية أو حتى النثر والشعر لايلتقي بالمضمون والدراية والفهم مع مايقوله صغار النقاد الذين يسيرون عكس التيار، أو أن نظرتهم لتلك الأعمال جاءت مختصرة على فصول محددة من النص الأدبي موضوع البحث والتقصي والتحليل….فالكثير من النقاد فسروا رواية ماركيز( مئة عام من العزلة ) على أنها نهاية العالم أو أنها خرافة من خرافات الأساطير الإغريقية أو أية أساطير عرفها الناس من خلال الموروث الشعبي أو ما جاءت به بطون الكتب القديمة من حكايات غريبة ومريبة اخذت الكثير من مساحة مخيلة القاريء وعصفت به في دهاليز مقفرة ومظلمة من العجائب والغرائب التي ماانزل الله بها من سلطان…والى يومنا هذا لم يقف النقاد عند نظرية أو رؤية واضحة ومحددة المعالم لتفسير تلك الرواية ذات الفكرة العجيبة والبناء الفني المتواضع على حد معرفتي بالبناء الفني للقصة والرواية..فمنهم من قال أن الرواية التي رأت النور في عام ١٩٦٧ وقلبت فن السرد رأسا على عقب ومنحت مؤلفها جائزة نوبل للآداب، وترجمت إلى عشرات اللغات في العالم من بينها العربية.. وهي تروي حكاية المنشأ والتطور والخراب الذي عاشته( ماكوندو)تلك القرية المتخيلة التي ظهرت في الروايات الثلاث التي كان مؤلفها غابرييل غارسيا ماركيز، ويقوم هيكلها السردي على عمود ملحمة أسرة وتأريخ سلالة( بوينديا) الممتد على مدى مئة عام تعبرها ستة أجيال متعاقبة …
وقال البعض من النقاد أن ماركيز يبين في ( مئة عام من العزلة ) موقفه السياسي ورسالته من أجل السلام والعدالة…وهي تحاكي مجموعة المشاكل التي تعاني منها الإنسانية.. فتظهر ملامح ماهو غير مألوف في حالات تماثل الحكايات الخرافية المفعمة بهواجس الحاضر، فاسحة في المكان لبيئة سحرية تخفف من البؤس الاجتماعي الإنساني، بطريقة يتطابق السحري فيها مع صلابة الواقع، والعنف الذي يهيمن على الحياة اليومية…
ومهما يكن التفسير فالواقع يثبت بأنها فكرة مستوحاة من حكاية قديمة لقرية سجلت في دهاليزها حكايات ومواقف تشبه إلى حد ما الأساطير…والواقع الأدبي والنقدي يثبت الكثير من تلك الحالات التي وقع في أسرها الكثير من النقاد حتى أن الروائي المصري الكبير نحيب محفوظ كان لايرى في النقد أية إضافة إلى نص الرواية العام والتي أخذت طريقها إلى القاريء أو تحولت إلى عمل سينمي نال إعجاب الجمهور في العالم العربي بأسره. وأنه كان يؤمن بعدم استطاعته عمل أي شيء لترتيب تحليلات وتفكيكات النقاد وتصوراتهم النقدية…وغيره الكثير من الكتاب والشعراء الذين وقعوا في مشكلات كثيرة مع النقاد حول الملاحظات التي يدونونها بشأن منجزاتهم حتى وصلت بعضها في السبعينيات والثمانينيات إلى عراك بالأيدي عند المقاهي التي يرتادها الأدباء أو باحة اتحادهم أو أماكن عملهم…
فيما يرى جمع من المختصين بشؤون النقد الأدبي..بأن الأديب مطالب بالتعبير الإبداعي والناقد مطالب بنقد ذلك التعبير بموضوعية وحيادية، وبما أن الأدب إبداع فيفترض أن يكون النقد إبداعا هو الآخر. يعد النقد الأدبي عملية تحليل وتفسير وتقييم الأعمال الأدبية، وتتم عملية النقد من خلال أربع مراحل، وهي الملاحظة والتحليل والتفسير والتقييم…وأن النقد الأدبي الحديث يعتمد غالبا على النظرية الأدبية وهي النقاش الفلسفي لطرق النقد الأدبي وأهدافه، ورغم العلاقة بينهما فأن النقاد الادبين ليسوا دوما منظرين…
ويقول البعض الآخر من النقاد والعارفين المحترفين في الوطن العربي أنه فن لتفسير الأعمال الأدبية، وهو محاولة منضبطة يشترك فيها ذوق الناقد وفكره للكشف عن مواطن الجمال أو القبح في الأعمال الأدبية، والأدب سابق للنقد في الظهور، ولولا وجود الأدب لما كان هناك نقد أدبي لأن قواعده مستقاة ومستنتجة من دراسة الأدب، أن الناقد ينظر النصوص الأدبية شعرية كانت أم نثرية ثم يأخذ الكشف عن مواطن الجمال والقبح فيها معللا مايقوله ومحاولا أن يثير في نفوسنا شعور بأن ما يقوله صحيح وأقصى مايطمح إليه النقد الأدبي لأنه لن يستطيع أبدا أن يقدم لنا. برهانا علميا يقينا، ولذا لايوجد عندنا نقد أدبي صائب وآخر خاطئ…
ومن هنا نرى أن عملية النقد في العراق كانت أشبه بالعملية العسيرة والصعبة في كل مدياتها ودلالاتها المعرفية والتوضحية لمفهوم النقد الأدبي الذي يراد منه تحليل أهم الجوانب الأساسية في أركان القصة أو الرواية..فالناقد آنذاك في حيرة من أمره لأن ما يقع بين يديه مؤلفات يرى أنها قد تأثرت وبشكل واضح وحقيقي بالأدب الغربي وخاصة الأدب الروسي وأن الرواية التي تكتب في العراق تحمل نفس الملامح والشخوص مع اختلاف الزمان والمكان..الا تحركات شخوصها وتعبيراتهم والماساة التي يعيشوها تبقى موسومة بطابع الاسلوب والبناء الفني بما كتب من روايات اصبحن مثيلاتها لكتاب أجانب…وراح البعض من النقاد يطلق جزافا على كاتب ما بأنه يكتب بلغة ” غوغول” أو ” هيجو ” أو ” البير كامو ” وغيرهم. وهذا الأمر قد سبب إشكالات كثيرة بين الناقد والمؤلف حتى يمتد هذا الإحساس إلى مايكتب من الشعر وبالتحديد قصيدة النثر أو مايسمى آنذاك بقصيدة النثر المركز الذي أطلق عليه فيما بعد تسمية( القصيدة الحديثة ) التي روج لها في العالم العربي الشاعر أدونيس حتى صار له مجموعات قلدت لونه من هذا الشعر..
ولعل خير شاهد على تأثر الأدب العربي والعراقي على وجه التحديد بالادب الغربي حيث الاسلوب والوصف والبناء الفني والسردي وخاصة تنوع وتشابه الأفكار هو ما تناوله الكاتب الإسباني ” مارسيلو فيلكاس ” لأعمال القاص والناقد عبد الله نيازي بالدراسة والتحليل لعدد من مجاميعه القصصية وهي ” بقايا ضباب” و” آعياد ” والهمس المذعور ” و ” اناهيد” والتي حولها فيما بعد الأستاذ حسين نهاية، إلى كتاب قام بترجمته ووضع له عنوان( في القصة العراقية.. عبد الله نيازي نموذجا )… وهناك شواهد كثيرة على تأثر عدد من الكتاب العرب والعراقيين بالادب الغربي وخاصة الروسي الذي يعد أكثر قراءة وقراءا ومطلعين وخاصة من اليسارين الذين هضموا هذا النوع من الأدب بأشكاله المتعددة…
يقول القاص( عبد المجيد لطفي ) ..أن قراءتي ل ” مكسيم غوركي ” تركت أثرا وذكريات طيبة، وليس ” غوركي ” وحده الذي وضع جزءا من ظله في حياتي الادبية بل مجموعة أخرى من الكتاب الروس..
اما ” ادمون صبري “فيقول: تأثرت بالدرجة الكبيرة بالكتاب الروس وقد أنفقت السنين الطوال في الكتابة والقراءة، وتأثرت كذلك ب” باوسكار وايلد” و فكتور هيجو واميل زولا واسبن وجاك لندن وغيرهم ..
وبالمقابل نرى أن الناقد الكبير باسم عبد الحميد حمودي يؤكد على حالة فريدة وهي أن للناقد العربي رؤيا مشرقة لطموح متكامل بإيجاد طبعة عربية لكل الثقافات المعاصرة وتمثل لديه مرحلة الدخول لثقافة عصره، ثم تشكيل رؤيا بقدرة هذه الأمة على المد الثقافي وعلى الوصول إلى مكانتها الأولى كأمة أسهمت في غنى حضارة العالم.