د. رقية هادي
تمثل التحولات التي يشهدها العالم في السياسة، والاقتصاد، والجيوبولوتك علامات مهمة على تدهور العصر وترسيخ مفاهيم جديدة، منها مفهوم المركز والهامش الذي تسعى القوى الرأسمالية إلى تثبيته عبر بسط هيمنتها، وتحويل المجتمعات إلى استهلاكية، وتكبيلها بالديون الخارجية، والسعي إلى تغيير الحدود وتقسيم دول واختفاء أخرى عبر الحروب، وانهيار الدول العظمى، وانشاء امبراطوريات جديدة هدفها تغيير موازين القوى، والسير بالعالم صوب اتجاه جديد تكون الرأسمالية هي المتحكم الأول فيه.
وبما إن الأدب حاضنة للتجارب الإنسانية يمكننا رصد آثار هذه التحولات على الرواية بوصفها مرآة للواقع، وطاقة سيميائية كاشفة عن الغلالة العبثية التي أحاطت بالرواية عبر المنعطفات التاريخية التي مرت بها تزامناً مع الأحداث العالمية، فكان للفكر العبثي الذي صاحب التغييرات السياسية فيوضات كبيرة أكسبت مضامين الرواية دلالات باذخة العطاء ارتبطت بالتمرد والثورة على الظلم والاستبداد وأصبحت الشخصيات الروائية الأداة الفعالة في بناء السرد المتشظي القائم على التجريب ومحاكاة الواقع وتفتيت بنية الرواية.
ومن الروايات التي كانت الشخصيات الرئيسة فيها تمثل مفهوم العبثية ولكن باتجاهين متضادين روايات البير كامو، فقد بدت شخصية (ميرسو) في رواية (الغريب) شخصية عبثية تواجه عبث الحياة بلا مقاومة، ولا محاولة للتغيير، إذ يعيش حياته بلا مبالاة، وبحرية مطلقة ووعي تام بأن الحياة تسير بلا منطق أو معنى، ولا بد من تقبل فكرة الموت دون خوف أو قلق لأنه جزء من الحياة.
أما في رواية (الطاعون) فقد مثلت شخصية الطبيب (ريو) الشخصية العبثية المقاومة للواقع والمتمردة عليه على الرغم من إدراكه بلا جدوى هذه المقاومة فهو لم يتوقف عن ممارسة عمله بوصفه طبيباً يقاوم المرض المتفشي في المدينة، ويواجه الموت بإصرار كبير رغم شعوره بأنه محاط به من كل مكان، فهو يرى أن التمرد، والمقاومة هي الاستجابة الوحيدة الممكنة للعبث، وأن على الإنسان أن يخلق المعنى لأفعاله حتى في عالم بلا معنى.
أما في أدبنا العربي فقد كان للصراعات السياسية والحروب التي تخوضها المنطقة تداعيات كبيرة أثرت بشكل واضح على الرواية فنياً ودلالياً، فلم تعد تعكس الواقع الذي يعيشه الإنسان فحسب بل صارت أكثر غوصاً في أعماقه، وأصبح السرد الروائي بوحاً أدبياً لاختلاجات النفس الإنسانية وما تعانيه من الإسقاطات النفسية للصراعات المحتدمة على أرض الواقع، وتشكل الشخصيات وسيلة تقنية يراوح من خلالها الروائي بين التصريح والتقرير تارة، والإيحاء والترميز تارة أخرى في التعبير عن الهواجس والانثيالات العاطفية التي تمنح لغة السرد زخماً إنسانياً وكثافة تعبيرية تحفز خيال القارئ وتنقله من واقع شاحب مدجج بالآلام والانكسارات إلى فضاء رحب تحلق فيه الكلمات بأجنحة شفافة من عالم الوجود إلى عالم اللاوجود واللاجدوى بحثاً عن الذات الضائعة في متاهات الحياة، فيكون النص الروائي نصاً مشفراً تتوغل فيه الشخصيات إلى عمق المخيلة، وتجوب في عوالم تقوم على التعرية الفكرية، وتحرير الذات من قيود الواقع، ورصد الأفكار التي تستوطن أحيازه العميقة وتخترق القوانين والأنظمة المفروضة، عبر تواتر الصور السيميائية النابضة بالتمرد والثورة المقنعة بأقنعة وهمية تمنحها مسحة فنية جمالية تخبئ خلفها فضاءً مفعماً بالترميز والتلغيز عبر الاشتغالات الكنائية والمفارقات الحياتية.
ومن الروايات التي تمثل مقاربة تطبيقية لهذا المفهوم رواية الطنطورية لرضوى عاشور إذ برزت شخصية (رقية) الطفلة الفلسطينية التي شهدت مجزرة الطنطورية وفقدت عائلتها بطريقة قاسية لتعيش معها هذه المأساة منذ طفولتها إلى مراحل متقدمة من حياتها، وتكون هذه التجربة المؤلمة بداية لسلسلة من الأحداث المريرة التي عاشتها، وكان هذا الحدث نقطة تحول في حياتها وبداية لرؤية مغايرة تقوم على عبثية الحياة ولا معنى الوجود، فهي تائهة بين المخيمات والمنافي التي تبعدها عن أرضها وبيتها الذي لم يبقَ لها منه سوى مفتاح صدئ هو إرثها الذي ورثته عن أمها وتحتفظ به كأنه كنزها الثمين الذي تخشى فقده كما فقدت أهلها.
وتتجسد هذه المفاهيم الفلسفية في بعض مشاهد الرواية نرصد منها المونولوج الذي كانت رقية تحدث به نفسها وهي تجلس على شاطئ بحر الطنطورية : “الجزر الصخرية راسخة في مواضعها تآلفت مع صخب الموج وحركة الزبد والرذاذ، وتكون السماء غيوماً على غيوم متراكبة كألحفة سميكة زرقاء داكنة أو رمادية تسلم للسواد، تنورها بغتة رقعة فضة. والبحر من تحتها يشبهها، موزع بين زرقة مسودّة عميقة ومشحات الأبيض وموجات تعلو باتجاه السماء كأنها تناديها أو تلاغيها أو تعترض منبِّهة أنها هناك، فتدفع أمامها ببركة واسعة من فضة خالصة، تذوب تدريجياً وتختلط بأزرق رمادي خفيف يلامس رمل الشاطئ”(الطنطورية: 39-40).
تتأمل رقية البحر بنظرة مغايرة، ومشاعر تختلف عن شعورها تجاهه عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها بعد أن فارقته لسنوات طوال وعادت إليه بنظرة أكثر عمقاً، ومشاعر تتجاذبها الأحداث والوقائع التي عاشتها، فتشدها تارة إلى السماء، وتلقيها تارة أخرى على الأرض فتتلقفها أمواج البحر، يبدو هذا الشد والجذب واضحاً في هذا النص المشحون بطاقة تعبيرية مكثفة تعبر عن عبثية الكون ولا جدوى الحياة، إذ اختلطت أمواج البحر بغيوم السماء لتنتج فضاءً يمتد في الآفاق تذوب فيه الحدود وتختلط الألوان كناية عن الهواجس والمشكلات التي عصفت بها فلم يعد لديها أمل في الخلاص من هذه المعاناة والخوف من القادم، هذا الشعور الذي يتسلل إليها في كل مرحلة تنتقل إليها، ومع كل يوم تتماهى فيه مع حكاية الوجع الذي تجوهر في ذاتها وأفقدها الشعور بالثبات والأمان، لكنه لم يسلبها الرغبة بالبحث عن الحياة في المخيمات، والمنافي، وخلف الأسلاك الشائكة، مفارقة تميزت بها هذه الشخصية بجمعها بين المتضادين؛ رفض الحياة، ووعي تام بانعدام المعنى وعبثية الوجود في ظل الاحتلال المقيت والحروب الملعونة، يقابله تمسك بالحياة وخوض في غمارها بآمال خجولة، تقاوم اليأس والعجز وهي تبحث عن الأحلام الضائعة.
نخلص ختاماً إلى أن الفكر العبثي يضرب أوتاده في أرض صلبة في متون الروايات التي تحمل ثيمة المعاناة الناتجة من آثار التحولات الجسام في مختلف الجوانب الحياتية، ويقع على عاتق الشخصيات الترميز والإيحاء لهذه التغييرات، والتعبير عنها بأساليب متنوعة.
سيميائية العبث في معمارية الرواية
![سيميائية العبث في معمارية الرواية](https://newsabah.com/wp-content/uploads/2025/02/1-9.jpg)
التعليقات مغلقة