هل ما بعد الطّوفان.. طوفانٌ من نوعٍ آخر؟

رغد السروجي
لا تسل عن سلامته، لكن روحه ربما لم يَعُد يرها فوق راحته فحسب كما أبدع إبراهيم طوقان؛ إذ يبدو أنّ للطّوفان وأدبه المقاوم رأيٌ آخر في ندوةٍ أُقيمت في ثقافي أبي رمّانة الاثنين من الأسبوع الفائت عنواها الأدب المقاوم ما بعد 7 أكتوبر، وذلك برعاية وِزارة الثّقافة، مديريّة الثّقافة في دمشقَ، وبمشاركة الدّكتور النّاقد ثائر عودة والأديب الصّحفي سامر منصور، وبحضور ثلّة من الأدباء والكُتّاب والصّحفيين وعددٍ من الفرق الثّقافيّة الشّبابيّة.
وتُعنى النّدوةُ بكتابات أدباء غزّة؛ فتسلّط الضّوء عليها وتُناقش إبداعها وذلك في ستّة نصوصٍ تنوّعت أجناسها الأدبيّة.
وبعد دقيقة صمتٍ احترامًا إلى أرواح الشّهداء الأبرار، بدأ الأديب والصحفي سامر منصور إدارة النّدوة بكلمةٍ ترحيبيّةٍ وأُخرى عن مضمون النّدوة ثمّ مُتحدّثًا عن قيمة ما يكتبه كُتّاب غزّة وأهميّة تسليط الضّوء على أدبهم، ثمّ بدأت قراءة النّصوص وإلقاؤها على لسان كُتّاب وكاتبات ومعلّقين صوتيًّا، إذ باشرت الكاتبة والمعلّقة الصّوتيّة رؤى نمّورة بإلقاء النّص الأوّل وعنوانه الاستسلام للكاتبة د. آلاء القطرواي الّتي استهلّت بداية نصّها بأسئلةٍ عن مصطلح الاستسلام تحت وطأة ما تعانيه، لتأتي البعوضة بدورها فتوسّع مدى ذلك المصطلح، وتشرح معاناتها معها لتشير قطراوي في نهاية النّص إلى إرادتها العصيّة على الاستسلام.
وآلاء قطراوي دكتورة في اللّغة العربيّة وأستاذة جامعيّة فقدت أبناءها الأربعة كما أشار الدّكتور ثائر عودة في مداخلته الّتي تلت النّص، فضلًا عن نقده الفنيّ له ولما فيه من تناصٍ واستعادةٍ للموروث وربطه ب ” البعوضة ” ذلك الهم الصّغير.
في حين رأى الأديب سامر منصور في البعوضة إسقاطًا يُقصد به الكيان.
ثمّ قرأت نمّورة النّص الثّاني طريق المدرسة للكاتب خالد جمعة، الّذي بدأه بجملةٍ قال فيها: ” إلى كل الأولاد الّذين لم يعد لديهم طريقٌ إلى المدرسة ”
حيثُ صوّر حاله طالبًا يفرح لأصغر الأمور المرتبطة بترتيبات الدّوام المدرسيّ، والطّعام الّذي تُعدّه له والدته إلى المدرسة، والطّريق إلى المدرسة مع رفاقه؛ إلّا أنّه لم يَعُد للمدرسة ملامح ولا للطّرق ليختم نصّه برحيل والدته أيضًا.
والكاتب خالد جمعة شاعرٌ شاب يكتب المقالة ويعيش في جنوب غزّة في خيمةٍ متواضعة كما قال الدّكتور عودة، وأشار في تعقيبه على النّص إلى استعادة الكاتب جمعة إلى الهموم والتّفاصيل الصّغيرة للأطفال في طريقهم إلى المدرسة ثم ذهبت المدرسة وذهب الأطفال والأم كذلك، مُشيدًا بكتابته بوصفها جميلة جدًا.
وألقت الكاتبة الشّابّة نور اللّه صالح نصّين، الأوّل منهما للكاتبة: مريم قوش والّذي عنونته بالسّادسة وعشر دقائق، إذ تقف أيّامها عند ذلك التّوقيت، وقد تحدّثت في هذا النّص عن فجر السّابع من تشرين الأوّل وكيف استشعرت باحتمال وقوع حربٍ فصلّت الفجر في بيتها ولم تؤجّله إلى المدرسة، ثم وصفت ذلك الفجر الّذي بدأ بروتينه الطّبيعي، إلى حين سماع الصّوت الّذي أحدث المفارقة فبدأت معه الحرب الّتي مضى منها عامٌ كاملٌ.
ومنذ السادسة وعشر دقائق من ذلك الفجر وحتّى هذه اللّحظة لم يبدأ ذلك اليوم من حياة قوش كما أشارت.
وقوش كاتبة في مختلف الأجناس الأدبيّة، ويتّضح ميلها المتميّز في وصف التّفاصيل الصّغيرة وما حلّ بالناس وفقًا لنقد الدّكتور ثائر.
أمّا حلّاق الحرب فهو عنوان النّص الثّاني الّذي ألقته صالح من كتابة علي أبو ياسين وهو يسرد حال الحلاقة والحلّاقين في الحرب وحاجّة النّاس الماسّة إليها، فبات الحلّاقون في كلّ مكان، لكن أن يكون الحلّاق إلى جوار مستشفى!
هذا ما أثار فضول أبي ياسين وهو ينتظر صديقه عند مدخل مشفى شهداء الأقصى، فيسمع حوارًا دار بين الحلّاق والرّجل الخمسيني الّذي فوجئ باشتعال رأسه شيبًا عندما كان يُقَص، فلم يصدّق حتّى رأى نفسه بالمرآة مما آلمه الأمر أيّما ألم، وأنسى أبو ياسين موعده لشّدّة تأثير الموقف.
وكان علي أبو ياسين قد أبدع في النّص فكرة وحسًّا، ونقل صورةً واقعيّةً مؤلمةً غاية في التّأثير والغرابة لحلّاق حربٍ في مشفى، ممّا يضع القارئ أمام حقيقةٍ لا تحتاج خيالًا لتؤثّر كما ذكر الدّكتور عودة.
ثمّ شارك الأديب والصحفي سامر منصور بمقتطفاتٍ من قصةٍ له في الأدب المقاوم، فيتحدّث عن أبي صابرٍ ذلك الرّجل الكفيف لخمسة عشر عامًا حيث يجري عمليّة يستعيد بها بصره بُعيد السّابع من تشرين الأوّل.
ليشارك بعدها بعمليّات الإنقاذ مستعينًا بحاسة سمعه القويّة، لكنّه يخسر أحفاده الأطفال الذين حرمه العمى من رؤيتهم وكان يُمني نفسه بلقائكم ورؤية ملامحهم التّي طالما التمستها أصابعه طيلة الأعوام الخمسة عشر.
ثم تحدّث منصور عن حبيبة أبي صابرٍ اللّبنانيّة الّتي استشهدت بالحرب الأهليّة وارتباطها بقصّة لوحة خبّأها الأخير خارج منزله وفاءً لزوجته.
ليُلقي بعد ذلك محمّد نور كيشي الكاتب الشاب آخر نصّين من النّدوة، أوّلهما غزّة تشتاق ملامحها للكاتب شجاع الصفدي وثانيهما ولادة أيلول للكاتب أكرم الصوراني.
” فما أصعب أن تسجن الموت بصفحات ” يقول الصفدي في نصٍ استرسل فيه الحديث عن غزّة ووصْفها ووسْمها في خضمّ ما يجري بها، بعد أن فارقت ملامحها، فيجد أنّ للمدن حياة وسمات ولكن هذه المدينة الآن كل شيء فيها مؤلم فأصبحت عصيّة على الوصف.
ومن هنا يشير الدكتور ثائر إلى الكاتب شجاع الصفدي الّذي يوثّق على الدوام ما يعانيه بأسلوب يحاكي الواقع أيّما محاكاة.
أمّا في ” يوم الجمعة الفاجعة فجرًا ” كما قال الصوراني؛ فإنّ ولادة أيلول قد حانت، ومن هنا يأخذنا في تفاصيل المعاناة بدءًا من النّوم الّذي سُرق من جفنيه لطالما تاق إليه، وانتقالًا إلى حديث المخاض ثم المحاصرة التي حالت دون وصولهم إلى المشفى، وانتهاءً بولادة أيلول قبل وصول الإسعاف.
أمّا أنسنة المكان والمكان الذي رآه الدكتور عودة هو البطل فكان لهما النّصيب الأوفر لهذا النّص وما يحمله من خصوصيّة لحال أهل غزّة والرّمزيّة الّتي فيه قائلًا: ” وكأن الكاتب يشير في النّص إلى أنّه رغم كلّ الصّعوبات لابد أن تحدث الولادة”.
وختم بكلامٍ للكاتب شجاع الصفدي الّذي وصف معاناة الكُتّاب في غزّة إذ يقول الصفدي: ” منذ أكثر من سنة لم نمسك كتابًا ” ثم أردف قائلًا: ” الكتابة خيارنا ومتنفّسنا الوحيد.. معظم الكُتّاب في المخيّمات يكتبون القصص القصيرة والمذكّرات.. فيجب علينا أن نقرأ منهم.. لأنّ الأقلام الصّادقة تستمد أحبارها من نزيف أصحابها”.
وانتهت النّدوة بمداخلات من السّادة الحضور، أبرزها إعلان الأديب والإعلامي عماد نداف عن حلقةٍ تلفزيونيّةٍ في هذا الصّدد قائلًا: ” يجب أن نكون أوفياء “.
وبعد القراءة في هذه النّصوص، هل فعلًا سنشهد طوفانًا من نوعٍ آخر؟
يتساءل الأدب المقاوم!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة