د. عادل الثامري
يقدم القاص كاظم الجماسي، في قصة “فيض من ضوء”، نصاً استثنائياً يستكشف المساحات المعقدة بين العنف والتسامي، بين الألم والتحول الروحي. ويقدم النص رؤية خاصة للعلاقة بين الجسد والروح، وكيف يمكن للمعاناة الجسدية أن تتحول إلى تجربة روحية متسامية.
الفضاء المكاني والتحول الرمزي
يتجلى البعد المكاني في النص عبر العلاقة المعقدة بين الجسد المعلق والفضاء المحيط به. التعليق من القدمين يمثل انقلاباً جذرياً للوضع الطبيعي للجسد، وهو ما يؤسس لحالة من الاغتراب الجسدي الذي يمهد للتحول اللاحق. هذا الوضع المقلوب يضع الجسد في حالة من التعليق بين الأرض والسماء، في إشارة رمزية إلى الحالة البرزخية التي يعيشها، بين عالم المادة وعالم الروح. ويتحول الفضاء المكاني في النص من كونه مسرحاً للعنف إلى فضاء للتجلي الروحي. تشهد الغرفة، التي تبدأ كمكان للتعذيب محدود بجدرانه المادية، تحولاً جذرياً في طبيعتها ووظيفتها. الجدران التي تحمل آثار العنف – اللطخات الحمراء والبقع الدموية – تتحول من كونها حدوداً مادية قامعة إلى شاشات تعكس وتنقل النور المنبعث من الجسد المعذب. هذا التحول في طبيعة المكان يتجاوز البعد المادي ليؤسس لفهم جديد للعلاقة بين الإنسان والفضاء المحيط به. حين يخترق الضوء المنبعث من الجسد حدود الغرفة والبناية، يفقد المكان قدرته على الاحتواء والتقييد، متحولاً من سجن إلى نقطة انطلاق للتجربة الروحية. هذا الاختراق للحدود المكانية يمثل تحدياً مباشراً لمفهوم السلطة وقدرتها على السيطرة عبر تقييد الفضاء.
رمزية الضوء والتحول
يمثل الضوء في النص ذروة التحول الروحي وتجاوز المحنة الجسدية. ويؤسس التحول التدريجي لمواقع الألم لمفهوم جديد للمعاناة، حيث يصبح الألم نفسه مصدراً للنور. هذا التحول يتجاوز المنطق المادي البسيط، مقدماً رؤية عميقة لإمكانية تحول المعاناة إلى تجربة تنويرية. تمثل قوة الضوء المنبعث من الجسد، التي تخترق حدود الغرفة والبناية، انتصاراً روحياً على محاولات الحبس والتقييد. هذا الضوء المتدفق “عرماً إلى الخارج” يتجاوز الحدود المادية، معلناً تحرر الروح من قيود الجسد والمكان. الضوء هنا لا يمثل مجرد ظاهرة فيزيائية، بل يصبح تعبيراً عن قوة الروح في تجاوز محدودية المادة وقسوة العنف.
طقوسية العنف وجمالياته
يقدم النص العنف كممارسة طقوسية منظمة تتجاوز البعد التدميري البحت. الجلاد، في حمله للسوط “كما لو أنه فرشاة رسام محترف”، يتحول من مجرد منفذ للعنف إلى فنان، يرسم بأدوات التعذيب لوحة معقدة على جسد ضحيته. هذا التشبيه يؤسس لعلاقة معقدة بين العنف والإبداع، إذ يصبح الألم وسيطاً للتعبير الفني. ويخلق الإيقاع المنتظم للعنف – ثلاث ضربات بالسوط تتبعها حرقة سيجارة – نمطاً طقوسياً يشبه الطقوس الدينية في تكرارها ونظامها. هذا التنظيم الدقيق للعنف يحوله من فعل عشوائي إلى ممارسة منهجية تحمل في طياتها إمكانية التحول. والدقة في تنفيذ هذا الطقس العنيف تؤسس لنوع من المقدس المعكوس، حيث يصبح العذاب طريقاً غير متوقع للتسامي.
يتعامل النص مع الجسد المعذب كسطح للكتابة وكلوحة للرسم، متجاوزاً النظرة التقليدية للجسد بوصفه مجرد كيان مادي. وتتحول العلامات التي يتركها العنف – سواء من ضربات السوط أو حروق السجائر – من كونها ندوباً وجروحاً إلى نصوص مضيئة تروي قصة التحول والتجاوز. هذا التحول في قراءة الجسد يؤسس لعلاقة جديدة بين الألم والمعنى، فتصبح المعاناة الجسدية وسيطاً للتعبير الروحي. يتجاوز الجسد في هذا السياق كونه موضوعاً للعنف ليصبح فضاءً للتجلي والتحول. كل علامة من علامات التعذيب تتحول إلى نقطة ضوء، وكل جرح يصبح نافذة للنور، في عملية تحويلية عميقة تعيد تعريف العلاقة بين الألم والمعنى. هذا التحول في فهم وقراءة الجسد يقدم رؤية جديدة للعلاقة بين المادي والروحي، بين المعاناة الجسدية والتسامي الروحي.
تحولات الصوت والصمت
يضطلع الصوت والصمت بدور محوري في النص. الانتقال من “الصرخات” و”الاختلاجات” إلى الصمت يمثل تحولاً جوهرياً في طبيعة المواجهة. في البداية، تمثل الصرخات والاختلاجات استجابة طبيعية للألم، تعبيراً صوتياً عن المعاناة الجسدية. هذه الأصوات تؤكد حضور الجسد وألمه، وتعبر عن محاولاته المقاومة الأولية للعنف المُمارَس عليه. ولا يمثل هذا الصمت استسلاماً أو انهزاما، بل يشير إلى تجاوز الجسد لحدوده المادية. هذا الصمت يمثل نقطة تحول جوهرية في النص، حيث يتجاوز الجسد مرحلة التعبير الصوتي عن الألم إلى مرحلة أعمق من المقاومة الصامتة. الصمت هنا يصبح فضاءً للتحول، حيث تبدأ مواقع الألم في التوهج، متحولة من علامات للعذاب إلى منابع للضوء.
ديناميات السلطة والمقاومة
تتجلى علاقات السلطة في النص عبر التفاعل المعقد بين الجلاد والضحية. الجلاد، الذي يمتلك السلطة المادية والقدرة على إيقاع الألم، يمارس سيطرته عبر أدوات محددة – السوط والسجائر. هذه السلطة الظاهرة تبدو في البداية مطلقة ولا تقبل المقاومة، خاصة مع وضعية الجسد المعلق التي تجعله في حالة من العجز الكامل. لكن هذه السلطة الظاهرة تتعرض لتحول جذري مع تطور النص. تأخذ المقاومة شكلاً غير تقليدي، لا يعتمد على الرد العنيف أو المواجهة المباشرة، بل تتجلى في التحول الداخلي العميق الذي يتجاوز حدود السلطة المادية. الجسد المعذب، في تحوله إلى مصدر للضوء، يقلب موازين السلطة، متجاوزاً سلطة الجلاد وقدرته على التحكم. هذا التحول يمثل شكلاً جديداً من المقاومة يتجاوز المنطق التقليدي للصراع.
خاتمة
يقدم نص “فيض من ضوء” رؤية تتجاوز الثنائيات التقليدية التي تحكم فهمنا للعلاقات: العنف /المقاومة، الجلاد/الضحية، الألم/النور، المادي/الروحي. لا يكتفي النص بتصوير المعاناة أو توثيق العنف، بل يستكشف إمكانيات التحول والتجاوز، مقدماً نموذجاً للمقاومة يتجاوز منطق العنف المضاد إلى فضاء أكثر عمقاً وروحانية. هذا التجاوز النهائي للثنائيات يتجلى في تحول الجسد المعذب إلى مصدر للنور، في انتصار نهائي للروح على محاولات القمع والتدمير. الضوء المنبعث من الجسد يصبح شهادة على قدرة الروح الإنسانية على تجاوز المحن والصعاب، مقدماً رؤية عميقة لإمكانيات التحول الإنساني، حيث يمكن للمعاناة أن تكون بوابة للتسامي، وللعنف أن يكون – رغماً عن مقاصده – طريقاً للتحرر الروحي.
العنف والتحول في “فيض من ضوء” للقاص كاظم الجماسي
التعليقات مغلقة