اسماعيل زاير .. هكذا رأيته عن قرب

حسن العاني

المكان هو بناية جريدة الزوراء في شارع حيفا التي شهدت صدور العدد الاول من جريدة الصباح وما تبعها من اعداد مبكرة قبل انتقالها الى مبنى جريدة بابل التي ما زالتْ مقراً للصباح .. وبغض النظر عن تلك المشكلة الكبيرة التي استغرقت بضعة اشهر بين اسماعيل زاير، رئيس تحرير الصباح يومها وبين النقابة بسبب بناية الزوراء العائدة لها فقد كنت بصفتي المسؤول المباشر عن تهدئة اعصاب زاير المنفلتة ومستشار تحرير الصباح ، احاول التعرف على هذا الرجل عن قرب .. إنه متسرع وسريع الغضب ولايتوانى عن اتخاذ اصعب القرارات في خمس دقائق ، ولكن مايجهله الاخرون ، ولم اجهله بحكم كوني اقرب زملاء العمل اليه ، ان اسماعيل زاير يمكن ان يتراجع عن اخطر قراراته في دقيقتين ..
الزمن هو الاسابيع المبكرة على صدور الصباح وما زلنا في مبنى الزوراء والوقت يقترب من الظهر ..كنت منهمكاً في العمل حين سمعت صوته الذي يقرب من الصراخ وهو يطلب حضوري الى مكتبه .. طلب مني بلغة الاحترام التي حكمت علاقتنا الى يوم إنتقاله بين يدي غفور رحيم ان اغلق الباب ورائي وسألني ان كنت اعرف الشخص المدعو ( عادل ابراهيم ) وهل هو بعثي وماهي معلوماتي عنه .. الخ
قلت له : الاستاذ عادل ابراهيم .. عضو قيادة فرقة او شعبة ، وهو مدير عام الشؤون الثقافية .. وللعلم فأن موقع هذه الدائرة جعلها من اكثر دوائر الدولة العراقية عرضة للنهب و ( الحواسم ) لانها في مكان منفي معزول بعيد عن الحركة ، ومع ذلك فهذه الدائرة واحدة من دوائر قليلة جداً نجت من الفرهود والحواسم لسبب واحد هو ان مديرها هو عادل ابراهيم الذي حرص على حمايتها بشتى الوسائل وكأنها بيته !! صديقي الراحل كان يهز رأسه وانا اواصل حديثي [ هل تعرف استاذ ابو ظافر ، إنني قدمت مجموعة قصصية للطبع ، لعلها الرابعة بعنوان (الولد الكبير) الى المديرية العامة للشؤون الثقافية التي يتولى ادارتها الاستاذ عادل ابراهيم ، وفيما كنت انتظر صدورها اصدر الرئيس العراقي أمراً يقضي بمنعي من الكتابة والنشر مدى العمر في أية صحيفة او مجلة او وسيلة اعلامية .. اذاعة ، تلفزيون .. الخ ، ولهذا قصدت الشؤون الثقافية لكي اسحب المجموعة ، وكان من الطبيعي ان اذهب الى الاستاذ عادل ابراهيم قبل اي موظف اخر ، وعرضت عليه طلبي بسحب المجموعة حتى لا اعرضه الى أية مسؤولية، لاتحمد عقباها في الغالب ، ولكن المفاجأة انه قال لي ( استاذ حسن : انا أعرف بالطبع إنك ممنوع من الكتابة والنشر .. ولكنني لم اتسلم نسخة من قرار المنع ، ولذلك سأطبعها .. بل سأسرع في طبعها فقد يصل كتاب المنع في أية لحظة ) وطبع مجموعتي .. هذا هو عادل ابراهيم بعيداً عن انتمائه السياسي ودرجته الحزبية ..
بشجاعة يفتقر إليها كثيرون قال لي رحمه الله [ لقد جئت الان من دائرة الشؤون الثقافية ، ولم التقِ السيد عادل ، ولكنني قلت بحقه كلاماً مؤذياً وبصوت عالٍ ، هل يمكن ان تذهب اليه غداً وتقدم له اعتذاري الشديد .. واذا وافق اقوم بزيارته واعتذر بنفسي ] وفي اليوم الثاني فعلاً قصدت الرجل ونقلت له اعتذار زاير ورغبته في الحضور شخصياً لتقديم الاعتذار فأخبرني [ الاستاذ اسماعيل مرحب به في اي وقت واعتذاره على الرأس ] وفعلاً ذهبنا معاً ، واستقبلنا الاستاذ ابراهيم استقبالاً كريماً ، وشاءت المصادفة ان يكون الصديق المشترك لنا نحن (الثلاثة) الاديب العراقي المعروف ماجد صالح السامرائي موجوداً ، وانعقدت بين ( زاير وابراهيم) علاقة من أرقى العلاقات ..
كان ذلك اول اختبار غير مقصود للصديق الراحل ، إنه شديد الانفعال سريع الغضب الى الحد الذي يدفعه الى اتخاذ قرارات قد تضرُّ به وبالعمل اكثر مما تضر بالآخر ، ولكنه في الوقت نفسه لايجد غضاضة ولاحرجاً في التراجع عن موقف انفعالي او قرار خاطئ بسرعة يحسد عليها .. لعلني اكتشفتُ في تلك الأيام المبكرة على صدور (الصباح) إنني اتعامل مع تركيبة إنسانية هي من طينة البشر الإعتياديين بخلاف مايوحي به الغضب الساكن بين عينيه .. إسماعيل زاير ليس نبياً ولاهو من العشرة المبشرة ، ولكنه في الوقت نفسه ليس من نسل الشياطين ولا الجن الطالح .. إنه على وجه التحديد من ذرية كل ابن آدم خطاء .. اجتمعت في سلوكه مثلما اجتمعت في سلوكنا جميعاً صفات القسوة والرحمة ، السلب والايجاب ، الحب والكره ، العدل والظلم .. ولكن ما يحسب له هو عدم تمسكه بقرار جائر او غير مدروس … ما عرفت الا قليلين مثل زاير يمتلك قدرة التغيير في قراراته مثل زاير من الخطأ الى الصواب بسرعة لافتة للنظر… أذكر ان لم تخذلني ذاكرة الشيخوخة إننا بعد اصدار العدد الثاني او الثالث من الجريدة استدعاني الى مكتبه وهو في اعلى حالات الغضب ، كان يعاتبني عتاباً لايخلو من لوم لان المحرر ( فلان الفلاني ) – وهو أحد المحررين الذين توليت دعوتهم للعمل في الصباح – بعثي ! أوضحت له كالعادة ببرودة أعصاب [ ان جميع العاملين في الجريدة حالياً بعثيون بلا استثناء لسبب بسيط ، ان الاعلام في وقتها واجهة من اكثر واجهات الدولة التي لايسمح بدخولها او العمل فيها لغير البعثيين – بغض النظر عن درجتهم الحزبية – او المرضي عنهم من قبل الحزب .. عزيزي ابو ظافر… كنت في ( الخارج) ولاتدري كيف هو الحال في الداخل] ونقلت له صورة تفصيلية .. تأملني وهز رأسه ومن يومها تخلى تماماً عن التعامل مع المحررين على وفق انتمائهم السياسي .. مركزاً على عناصر الاخلاص والعطاء والكفاءة .. في جلساتنا الانفرادية الكثيرة – بصفتي مستشار تحرير الجريدة – نقل لي غير مرة رؤيته لمفهوم الديمقراطية في الاعلام ، وضرورة تكريس مبادئ الحرية وحرية التعبير عن الرأي و.. وقر قراري يومها ان اضع افكار صديقي زاير في دائرة الاختبار ، وهكذا نشرت مقالة ضمن ( زاويتي ) المعنونة ( صباح الخير) تحدثت فيها عن الاسئلة الموغلة في التعقيد والصعوبة التي تعرض لها طلبة السادس العلمي في مادة الاحياء ، وكذلك اسئلة اللغة الفرنسية – المرحلة الثالثة – أعني ( الثالث متوسط ) حيث كانت أعلى من مستواهم بكثير ، وكان منطوقها مبهماً تماماً اربك الطلبة وجعلهم في حيرة من امرهم ، وتساءلت عن الحكمة من وراء ذلك وختمت المقالة بالعبارة التالية [ لو اعرف الحكمة من وراء ابتكار (الحزورات) اعني الاسئلة الغامضة لأصبحت حكيماً وتخلصت من مناكدات رئيس تحريري اسماعيل زاير التي تشبه الاسئلة الوزارية – جريدة الصباح / العدد 31 في 6/8/2003 ] وتم نشر المقالة من دون حذف او تغيير او اعتراض .. غير ان هذا وحده لم يكن كافياً للتعرف على مدى قناعة زاير وايمانه الحقيقي بحكايات الديمقراطية وحرية التعبير التي تعامل –هو- معها في خارج العراق ، ولم نعرف – نحن- عنها شيئاً في الداخل .. وكان لابد من براهين اشد قوة .. وذلك ما سأشير اليه لاحقاً .
في البناية التي انتقلت اليها جريدة الصباح من ( شارع حيفا – جريدة الزوراء) الى ( حي القاهرة – جريدة بابل ) ، فوجئت مرة وهو يجمع المحررين ويلقي عليهم خطبة نارية ، لاتكتفي فقط بالتعبير عن غضبه وانفعاله ، بل كانت كذلك موشومة بالتهديد والعقوبة والطرد لأي منتسب يتحدث بالطائفية او يكتب او يدعو اليها ولو من باب المزاح ، وختم خطبته قائلاً [ لامكان للطائفية في هذه المؤسسة الاعلامية الشريفة ] ، وفهمت لاحقاً ان مدير مكتب الصباح في محافظة ( …. ) قد تعرض الى كلام طائفي – أغلب الظن في تقديري من باب الملاطفة – وقد بلغ ذلك اسماع زاير فثارت ثائرته ، ولايقع في ذاكرتي ان جدران الصباح قد رأت او شمت او سمعت بعد تلك الخطبة ( المرعبة) وجوداً او رائحة او نكهة طائفية حتى في السر او لأغراض المزاح ..
ذلك – كما قلت واكرر – هو اسماعيل زاير ، ما كان من سلالة الملائكة ولم يكن من سلالة الشياطين بل من ذرية آدم التي لها ما لها وعليها ما عليها ، وما زالت احاديثه حول الديمقراطية وحرية التعبير – يومها – تربك افكاري التي امضت الشطر الاعظم من وجودها تحت هيمنة الرأي الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد، لاشيء اسمه الاخر ، وما زالت بي حاجة – يومها – لتوثيق الموقف الفعلي لزاير من افكاره التي تعلمها في البلدان التي شبعت شعوبها وتغنت بالديمقراطية وانواع الحريات و… ويومها كنت اكتب مقالتي في الصباح وأُسلمها الى الزميل مدير التحرير – على وفق سياقات العمل- الذي يتولى دفعها للنشر ، وهاهو صديقي الراحل يغلي غضباً لكونه لاحظ مصادفة بأن مدير التحرير يقرأ مقالتي ، كان صراخهُ يعبر حدود الجريدة [ كيف تقرأ مقالة حسن العاني .. بأي حق .. الكتاب الكبار لا احد يقرأ مقالاتهم او يتدخل فيها وان اختلفنا معها … انا رئيس التحرير اقرأ مقالات العاني ومقالات الكتاب الكبار بعد ظهورها في الصحيفة ] ولم يهدأ الا بعد ان اقسم له مدير التحرير بأنه كان يقرأ المقالة من اجل الاستمتاع بها وليس من اجل الحكم عليها .. عندها فقط غادره الانفعال واعتذر من مدير التحرير ودعاه الى تناول القهوة في مكتبه !! كان عليّ اذن تصديق افتتان زاير بالحريات ، ولكن عناصر الريبة والشك التي تغلغلت في نفوس العراقيين منذ اغتيال الحق والقانون والعدالة بمقتل الملك عام 1958 جعلتني شديد الحذر من التصديق بظهور القمر في السماء حتى وان رأيته في منتصف الليل ، ولذلك ما زلت ( اتمنى) مزيداً من الدلائل والوقائع !! لايسمح المجال لتغطية التفاصيل ، ولكننا الآن في العام (2004) وقد صدرت جريدة ( الصباح الجديد ، واتخذنا مبنى في الوزيرية غير بعيد عن ( الصباح) ، وكنت مستمراً في كتابة مقالتي تحت العنوان نفسه ( صباح الخير) و .. بعيداً عن التفاصيل كذلك ، فقد حكمني ظرف اصعب من قدرتي على مواجهته الزمني بمغادرة ( الصباح الجديد ) ، وهكذا كتبت مقالة تحت عنوان (استقالة) – وهي طويلة نسبياً – والموافقة على نشرها تحتل نسبة (صفر بالمئة ) ، وجاءت خاتمتها على النحو التالي [ … وعليه ابتداءً من نشر هذا الموضوع ، سوف لا ادخل غرفة « المدير العام « اسماعيل زاير ، بل غرفة الصديق « ابو ظافر « لاشرب القهوة واسأله عن سير العمل وصحة العيال وكلي ثقة بأن الرجل لن يتحول وراء كرسيه الدوار الى مدير عام لأن في داخله طفلاً نظيفاً وفناناً ينهره … آمل قبل ذلك وبعده ان يكون صديقي سعيداً ويوافق على نشر هذه المقالة ، وهو الذي لم يرفض لي اية مادة صحفية حتى تلك التي تضعه في موقف محرج ، بل – واقسم على ذلك – بأنه لايطلع على مقالاتي الا بعد النشر … قلبي على ابنائي وبناتي في الصباح الجديد من رجل اجتمعت له تناقضات الكون ، فهو والله اكرم من حاتم الطائي في لحظة وابخل من بخلاء الجاحظ في لحظة ، وارحم من قلب زاهد مؤمن في لحظة ، واقسى من قلب صدام حسين في لحظة ، وفي اللحظات كلها هو … اسماعيل زاير مع المحبة .. جريدة الصباح الجديد – الاربعاء – 6/10/2004 ] .
لو كنتُ مكانه لم اوافق على نشرها … من يصدق ان المؤمن بأفكاره وقناعاته وافق على نشرها بكل اريحية … ولم تؤدِ تلك الاستقالة المنشورة الى قطع صلة الوصل سواء بيني وبينه ، أم بيني وبين الصباح الجديد .. كان صديقي الراحل تاريخاً شخصياً يستحق الاعتزاز والذكر .. ومزيداً من الدعاء بالرحمة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة