سلام مكي
برحيل الاستاذ اسماعيل زاير، مارس الموت سياسة الصدمة التي تمارسها دول ومنظمات واشخاص، لتحقيق أهدافهم وغاياتهم. صدمة رحيله المفاجئ وغير المتوقع، تركت أثرا كبيرا على كل من عرفه ومن لم يعرفه، وكأن الموت ينفذ سياسته المزمنة تجاهنا، ويقول: لا يؤمن أحدكم شرّي! رحل زاير في وقت كانا بحاجة ماسة به، رحل تاركا مكانه الواسع في قلوب محبيه وشعبه. هل يمكن أن نتخيل صحافة عراقية بدون اسماعيل زاير؟ هل يمكن لمسيرتها أن تستمر بلا اسماعيل زاير؟ زاير الذي ترك منفاه الاوروبي ليدخل في منفى جديد، اختاره بنفسه وبلا تردد ليكون محطته الأخيرة. ذلك المنفى المسمى « الوطن» الوطن الذي وجده مكبلا بكل قيود الحياة ومآسيها من فساد وخراب قديم وجديد ومستمر، سعى لأن يفتح طريقا خاصا به، وسط الغابات والأحراش، عبّده بجرأته وشجاعته التي عرف بها أيام النضال ضد الدكتاتورية والسعي نحو بناء حياة جديدة وخالية من الدمار والخراب. فكان يرى أن بناء إعلام قوي وحر، من أهم مقومات الدولة وقوتها، فسعى منذ اللحظة الأولى لدخوله البلد عقب سقوط النظام إلى تأسيس أول صحيفة عراقية حرة، تنتمي إلى الدولة لا إلى السلطة، فكانت «جريدة الصباح» ثمرة جهده الأول داخل البلد بعد عودته. ولأنه يؤمن بأن حريته وحرية المؤسسة التي يديرها أهم وأغلى من أي سلطة ومنصب، ترك جهده للآخرين، ترك الصباح بعد أن أدرك أن مفهومه للحرية والذي عرفه وفهمه نتيجة لخبرته المتراكمة وعمله الطويل في أهم المؤسسات الصحفية العربية في لندن وبيروت، لا تتناسب مع سياسة السلطة الجديدة التي تأخذ القرار من جهات خارجية. ترك الصباح واتجه نحو مشروعه الخاص « الصباح الجديد» الصحيفة التي تأسست بعد أيام قليلة من تركه للصبح، لأنه كان يؤمن بأن الاعلام الحر، المدافع عن الانسان والمعبر عن قضاياه المصيرية، أهم من وجود السلطة والحكومة نفسها، فقرر تأسيس الصباح الجديد، لتكون منبرا حرا ونافذة واسعة كي يرى الانسان العراقي نفسه من خلالها. استمر زاير في الصباح الجديد كل ما يملكه من طاقات وأفكار في سبيل خلق إعلام وصحافة عراقية حرة، يكون الانسان بطلها الأول والأخير. فكانت الصباح الجديد ولا زالت مبرا حرا لكل الأفكار بلا قيود، تستقبل كل الأفكار التي تعبر عن الانسان وتطلعاته، سواء في المجال السياسي أو الثقافي أو الأدبي، تستقبل كل الأقلام التي تريد رسم طريق جديد للوطن. ولم يكتف بهذا فحسب، بل حوّل زاير مؤسسته الصباح الجديد إلى مدرسة تخرج على يديه الكثير من الاعلاميين والصحفيين.
وبمجرد إعلان رحيله المفاجئ وغير المتوقع، تسابقت الأقلام والأسماء لنعيه وذكر خصاله والحسرة على وصاله الذي رحل بلا عودة. والملفت أن أغلب الأقلام التي كتبت خصوصا الشباب الذين تتلمذوا على يديه، كانوا يؤكدون على البعد الانساني في تعامله معهم. وحتى من سعى لذم الراحل، لم يجد ما يقوله سوى بضعة مواقف لا قيمة لها ولا تستحق الذكر أصلا، كانت مجرد أوهام في نفوسهم، كأن زاير كان متعاليا! أو يمشي بطريقة لا تعجبهم! أو أن هنالك شخص يسير خلفه! هل يستحق هذا الأمر الذكر لراحل قدم الكثير لبلده وشعبه؟ هل قائل ذلك الكلام يملك تواضعا مفرطا، بحيث اعتقد ان طريقة كلام زاير تعني أنه متعالٍ؟ أن ما يحسب لزاير، أن أفضاله شهد الجميع بها، ولم يجد أحد مثلبة عنه وإلا لقالها! رحل اسماعيل زاير، بجسده نحو العالم الآخر، لكن حضوره المعنوي باق في عالمنا، وآثاره وذكراه باقية في أذهان كل الشرفاء والخيرين في هذا البلد.