طقوس الجنديل تكسب حياءها من جمالية اللغة السردية

هيثم محسن الجاسم

( القص امساك بلحظة وجع تحرك الساكن في العقل – تشيخوف)
«وهذا ما يفعله احمد الجنديل في هذه المجموعة ، الماضي بين سرديات قصيرة، واكثرها ينتمي الى السرد الحكائي الطويل» (1)
استعير من قصة «القطط تنتصر ليلا» للقاص احمد الجنديل مدخلا لقراءتي المتواضعة هذه, بتصرف, لا قول هذه المجموعة الممتدة من قصة العفريت الى قصة وكان اللقاء, شهدت مالا يخطر على البال ولا يدخل في حساب القارئ من ثيمات متوهجة ازاحت ظلمة ووحشة السرد في العراق لا سباب كثيرة بعضها أفرزته الظروف السياسية المفسدة لذائقة الإنسان واخرى غياب النقد البناء لمواكبة الطوفان السردي والشعري المفتوح دون تشذيب او فلترة لتنقيته من الشواب النشاز والدخيلة والتي رهلت النتاج الابداعي .
تسع قصص تضمها مجموعة طقوس لا تعرف الحياء للقاص احمد الجنديل , الصادرة عن دار تموز ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع – دمشق, الطبعة الثالثة -2018 .ب160 صفحة بلا مقدمة او سيرة ذاتية للكاتب .
«طقوس لا تعرف الحياء , صدرت اول مرة عام 2011 اشتهرت في الجزائر وتم طبعها هناك مرة ثانية ونفذت بسرعة ونالت القبول في حينها كما يقول عنها الجنديل هي اقرب الكتب الى نفسي كتبتها على طريقة (الكاتب الروسي تشيخوف )طريقة صارمة .
كتب عنها النقاد منهم د.العاني أستاذ الأدب المقارن وكما كتب عن قصة الشقاء وهي مقال نقدي». (2)
الغلاف ,اختير بدقة من وحي قصة «زفاف في احضان جهنم» بوابة سجن معتمة كما تراءى لي, وسأخوض غمراتها الانسانية والسردية مع تذكير بملاحظة «ان احمد الجنديل سجن في عام 1968ثم 1971 «, هذه المجموعة واحدة من عديد من المجاميع الصادرة للمؤلف منها «انا وكلبي والصقيع» و»الهذيان داخل حقيبة الموت» و»بيادر الخوف «و» لا شيء سوى السراب» و»سواقي العسل المر» ,واحسد من اقتناها .ربما وجع الكتابة عند الجنديل لأنه عاش مغتربا واغتربت كتبه معه, ونأمل منه أن يتكرم بطبعة جديدة أو يجمعها بمجلد للأعمال القصصية الكاملة لتكون تحت متناول القراء والباحثين والمترجمين وعشاق الادب الرفيع .
لجأ الجنديل للسرد الواقعي الطويل متأثرا بواقعية القصص الروسي, كما أعلن ذلك في لقاء «قلم رصاص» لشبكة نبأ المعلوماتية.»كتبتها على طريقة (الكاتب الروسي تشيخوف )طريقة صارمة «.
تناول في قصة العفريت واقع حياة الشغيلة البائس على تحت نير أرباب العمل وتلقوا جورهم وظلمهم وفسادهم بصمت, وبدل بسط القوانين التي تنظم العمل وحقوق العمال, استقوا العفريت ببهيجة العاهرة لتعيده للعمل ونال حقوق يحلم بها وعلى حد قول بهيجة «لا شيء يعوزك الان سوى حذاء جديد لتكون شخصية مرموقة في المجتمع» ص29. القصة تنتمي لواقع لم يعد مألوفا الان نستطيع تقيمه من طبيعة وصف تأثيث مكان الحدث .
اما قصة «الهجرة الى البحر» التي نلحظ ان المفارقة جلية من العنوان ,لأنها تعطي دلالات كثيرة للمتلقي لما فيها من معاني للهجرة عبر البحر وحالات الاستلاب والخوف والضياع في المجهول, و برز للعيان بأسلوب الجنديل التهكم والسخرية من الواقع المرير «منذ البدء والكلمات الساقطة الحلوة تلعب فينا فاصبحنا بفضل دعارتها علبا فارغة لا تصلح الا للنقر عليها»ص63 و»…ورأسي مزبلة لمواعظ كهان الوثن الاعظم «.ص64 .
وقصة «هاجر خاتون» تذكرنا بالشخصيات البغدادية التراثية في الدراما العراقية ,وهي من الثيمات التي أستمد منها القاص مواضيعه لإيصال افكاره ورؤاه الثابتة ومحورها الانسان, وهي شخصية تقليدية اعتادها المتلقي من قبل الحكواتين والسراد الاخرين «تتفقد المرضى والمحتاجين من ابناء حارتها, تمنحهم ما يحتاجونه وتشارك الاخرين افراحهم واحزانهم وبهذا استحقت لقب خاتون عن جدارة كبيرة …لوفائها ونبلها وشرفها في الوقوف الى جانب الفقراءوالمحتاجين,..».ص77.
قصة «حصان عبود» الانسان الكادح المكافح من اجل لقمة عيش شريفة لا تضطره للمساومة والتنازل عن كرامته وقيمه وحب الناس له وحبه لهم «كان ودودا في تعامله متسامحا مع الجميع «ص87 .
وقصة «رقصة الخوف» ناصر الفلاح ابن الفلاح المجنون الذي ذهب عقله ضحية جشع وطمع الاقطاعي شيخ العشيرة ثمن مصادرة ارضه وبيته وخروجه عن طاعة القطيع. اضطر الحاكم لأطلاق صراحه بعد ثبوت جنونه « وامام قاضي العدل اراد ناصر ان يتعرى الا ان الشرطة منعته, فاكتفى بمواصلة الغناء وسط ضحك الحاضرين علية «.ص101
استخدم الجنديل خبرته وكفاءته في السرد بتضمين النصوص تقنيات متعددة ؛المنولوج الداخلي والموروث الشعبي لتدعيم الحبكة وابراز تأثير الصراع الطبقي في المجتمع وتجسد في صورة الزواج والعلاقات العامة خاصة في المناطق الحضرية ,كما في قصة «الزيارة القادمة» «رحت تقفز سلم الدرجات الوظيفية بسرعة مذهلة وتحولت ….الى شخصية كبيرة….كانت امك تقفز معك هي الاخرى الى عالم الغرور», ص108 و» كانت تقول الزواج قسمه ونصيب ومازن يبحث عن فتاة تناسبه في المنصب والجاه».ص108
وعودة للموروث الشعبي والعادات والتقاليد والنفاق الاجتماعي وزيفه جاءت قصة «القطط تنتصر ليلا» لطرحها بشكل مبدع ,وصف سلس وناعم, « دخل منعم الذيب بكبرياء مصطنع ,اراد قطع رقبة القطة في الساعة الاولى من اللقاء» ص116 .
واختتم المجموعة بقصة « وكان اللقاء» عن الصراع الطبقي بين الحبيب رياض الشاعر الوطني الثوري المطالب بحقوق الشعب المشروعة وحبيبته رفيف ابنة الطبقة الارستقراطية الرأسمالية التي تعيش على امتصاص دماء الناس والاثراء على حساب الفقراء والمحتاجين .وتصاعد حدة الصراع وتتويجه بانتصار الحق «اعرف ان الفجر قادم لا محال» ص160.
نثر الجنديل في نصوصه باتقان؛ الحلم وكابوسه واطلاق الشعارات الثورية والحكم الاخلاقية وخلفيات الموروث الشعبي من عادات وتقاليد واعراف ,كذلك لم يغب الحب ولواعجه عنه في وصف علو وسمو انسانية شخوصه ابطال المجموعة .
وهنا اتوقف مليا عند قصة «زفاف في احضان جهنم» التي جزئها الجنديل الى فصل او مشهد بعنوان «النزيل» السياسي الخطر على النظام الاستبدادي, ومشهد ثان بعنوان « الحارس « . قصة مليو درامية عميقة جسدت الاذلال والاستلاب للإنسان بمحاولة تجريده مرة عضويا ليذوي منهارا ليعترف بما يمليه عليه الجلاد ثم يواري سوءة جسده بجعل ملف الاعتراف كفنا ملطخا بدمائه يدسه تحت التراب.
النزيل باسل غازي المخزون والحارس سلمان اللذان جسدا الانسانية المسلوبة جسدا ممثلا بباسل « …وجنتيه الغائرتين تماما ضمورهما اعطى لجبهته هذا الارتفاع وشعر شاربيه غطى شفته العليا وشفته السفلى تبدو كقطعة من الجلد اليابس المتشقق.. « ص50.و» كانت عينيه مفجوعتين بالهزيمة وشفتاه مسحوقتين بالذل ووجهه كوجوه الاشباح لأثر للحياة فيه …»
ص53 .
أوروحا مسلوبة من قبل الطغاة الذين يتحكمون بالعباد والبلاد على هواهم ممثلة بسلمان الشرطي «عملت مراسلا عند احد الضباط الكبار فكنت كاتما لأسراره ..»ص45 .
عبارة السجين باسل الذي قال بأمسية ( البئر التي يتغوط الانتهازيون فيها ,لا تمنحكم ماءً زلالا). كلفته حياته . والحارس سلمان طاعته العمياء للأوامر ورؤساءه كلفته كرامته المستباحة وعبودية مذلة مقابل مكافئة تافهة او ترقية وضيعة, ولكن ضميره الانساني الحي الغير قابل للبيع والمساومة تحرك منتفضا لإنسانيته بفطرته العفوية وانتصر للسجين من خلال اطعامه ومعالجته من الجرب . هذه القصة كتبت بقلم بارع وكبير من تمايز بالوصف « تميز الجنديل بأسلوب شعري أخاذ وكأنه يكتب قصيدة نثر ، فقد كان الإيقاع الفكري متحداً مع الإيقاع النفسي ، فضلا عن الوصف اللغوي الدقيق ، والتراكيب التي لا تحتمل الزيادة ، مما جعل تلك القصص تتسم بطابع جمالي واضح ). (3)
وفي الختام الثناء والاشادة قليلة بحق القاص احمد الجنديل الذي ضمن قصص المجموعة تفاصيلاً أكثر دقة مما هي عليه في الواقع وأكسب الأحداث ايحاءً مركزاً ورونقا جماليا .
(يقدم ما يراه مسروداً صالحاً، ثم يظل منتظراً النتائج وردود الافعال، دون ان يعنى بقضية التطهيرات الارسطوية، ولا حتى باعتبار مسروداته جزء من الارث المعرفي العراقي العام، هواجسه، رغباته، تدفعه الى التدوين، وهو يعلن.. لماذا علي ان اصمت وانا شاهد فواجع انسانية لا يمكن نسيانها وتجاهلها، وتلك روح متحدية وانتماء معرفي واع جعل النقدية العراقية تنتبه الى المنجز السردي الذي قدمه جنديل . (4)

1 – شوقي كريم حسن ,أحمد الجنديل.. مصادر السرد وتدويناته
2 – شبكة صدى القيثارة – لقاء قلم رصاص, خالد الشمري,2015 .
3 – نفس المصدر.
4 – شوقي كريم حسن- نفس المصدر.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة