صناعة التاريخ

إذا كان المقصود من صناعة التاريخ المشاركة في النقاشات التي تدور حول حادثة ما، أو الشروع باتخاذ قرار بشأنها، أو المساهمة في إيجاد موقف منها. فإن هنالك ما لا يحصى من الأشخاص الذين يصنعون التاريخ كل يوم، ويضعون أسماءهم بجانبه، بكل ثقة وقوة.
يمكن ملاحظة الكثير من الحوادث وما لا يعد من النزاعات في البلدان التي لا تعرف طعم الاستقرار. وفي هذه الأثناء يغرق الجميع في موجة من الأخذ والرد، والقيل والقال، والمشاكل والخصومات. وغالباً فإن هذه التفاصيل تضيع بمرور الوقت، حينما يسدل الستار عليها لسبب أو لآخر، ويغدو تداولها غير ذي جدوى.
ولأنني أؤمن أن صناعة التاريخ، أو الحوادث الكبرى، مسألة في غاية التعقيد. وأن فكرة صغيرة كإنشاء مؤسسة ثقافية مثل بيت الحكمة، أو تأليف كتاب مثل العقد الاجتماعي، أو حفر ترعة ملاحية مثل قناة السويس، أو نشوب حراك شعبي مثل الثورة الإيرانية، هي أمور لا تشكل حين البدء بها أي مفارقة تاريخية. لأنها تنشأ بسبب الحاجة إلى المعرفة، أو الاستجابة لمطالب شعبية، أو الامتثال للرأي العام، أو الرضوخ لدوافع استعمارية بحتة، لكنها تتحول بمرور الوقت إلى حدث جسيم لا يمكن التنبؤ بأهميته للعالم، وهو ما يتضح بعد مرور وقت ما عليها. إلا أنني أؤمن كذلك أن الأفكار التي صنعت هذه الثورات، ربما نشأت عرضاً أو اتفاقاً، أو كانت متداولة على نطاق ضيق. أو أصبحت حاجة إنسانية، أو غير ذلك. أي أن خلافات بسيطة بين شخصين قد تتطور لاحقاً إلى ثورة عارمة. أو قد يتحول جدل عادي بين مجموعتين إلى تيار فكري واسع. أو تفضي تجارب مختبرية صغيرة إلى اكتشافات تقنية كبرى، وهكذا.
وقد أتيحت لي فرصة الاطلاع على نقاشات مطولة جرت في العراق والبلاد العربية حول شكل النظام السياسي العربي، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وكانت لا تخرج في مجموعها عما كان الطلبة والشبان الصغار يتداولونه من أحاديث في السياسة أو المجتمع أو الدين. لكنها أسهمت بطريقة أو بأخرى، حينما اتسعت دائرتها، في حدوث انقلابات، ونشوء أحزاب، واندلاع صدامات، أدت إلى تحولات اجتماعية كبرى.
ربما نغفل نحن في حياتنا اليومية مثل هذه الحوادث الصغيرة. لكنها في واقع الأمر جزء من حركة التاريخ، وأصل من أصوله، حينما تخرج عن نطاقها المحدود وتتحول إلى ظاهرة كبرى. فكل شئ يبدأ صغيراً ثم يكبر.
إن كل ما حدث لدينا في الماضي القريب إنما نشأ بسبب سجالات من هذا النوع. وكان ينظر لها في الغالب بنوع من الاستخفاف، لأن أحداً لم يكن يتصور في حينه أنها ستفضي إلى أوضاع بالغة الخطورة، عظيمة التأثير. وتبقى مهمة التاريخ بعد ذلك، وضع القوانين التي تحرك الشعوب والأقوام، وتنتقل بهم من حال إلى حال، ومن مستوى حضاري لآخر، دون كلل أو ملل.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة