يوسف عبود جويعد
في المجموعة الشعرية (كَأنَّهُ) للشاعر أجود مجبل، نكتشف معالم التغيير والتجديد في متن القصيدة الشعرية، حيث يقوم الشاعر بتحديث كل العناصر والأدوات التي تدخل ضمن بنية النص الشعري، من المفردة الانزياحية الشعرية التي تنبثق من صميم الحياة اليومية، والثيمات التي تلامس وجه الحياة، وتنقل ما يدور ويحدث في ثناياها، ووحدة الموضوع لبناء فني متراص متماسك متحد متصل من الشطر الأول للقصيدة وحتى آخر عجز فيها، والرؤية الفنية التي اتخذها الشاعر سياق فني متبع في عملية صناعة القصيدة الشعرية الحديثة، كون أن الشاعر أجود مجبل يُعد واحداً من الشعراء الذين حدثوا القصيدة العمودية، وجعلها تنسجم وتواكب حركة تطور الشعر الحديث، من خلال خروجها من رتابتها، ونمطها الشعري المكرر، إلى حالة يظهر فيها الجهد الفني نحو التغيير، من خلال تجديد أدواتها وعناصرها، ومفرداتها، وبنائها الفني، دون الإخلال بأساسيات صياغة القصيدة العمودية من حيث الوزن والقافية والإيقاع وبحورها المختلفة، وهو أمر يحيلنا إلى حقيقة أن الحداثة في العملية الشعرية لا تعتمد بالمساس بالتجنيس الشعري، وإنما بتغيير المحتوى وتجديده وجعله يواكب ويلاحق حركة تطور الحياة بكل متغيراتها، الأمر الذي يجعل القصيدة الشعرية تمس حياة القارئ، فيتابعها ويتواصل معها، ويتفاعل مع كل صورة شعرية وردت فيها، لأنها استقطعت من صميم حياته، وتمس لواعجه ووجدانه وأفكاره ووعيه، وهمومه، ومعاناته، وحزنه، وفرحه، وخياله، وحلمه، وحتى نظرته بعيدة المدى نحو مستقبل خال من كل منغصات الحياة، لأنها (وأقصد بذلك القصيدة الشعرية) احتوت كل معالم الحياة العصرية، وخرجت من النمط الكلاسيكي والتقليد والتكرار، نحو معالم حياة رحبة وواسعة نعيشها فيحسها الشاعر وينقلها برؤية شعرية حديثة، وهذا ما عمل عليه الشاعر ليضعها في الطريق الجديد لبنية النص الشعري الحديث.
ولكي نتحول من البحث النظري، إلى البحث التطبيقي، علينا أن نطوف مع عالم الشعر، الذي أرسى قواعده الشاعر أجود مجبل، ونختار نماذج من مجموعته الشعرية، لنكون مع أول قصيدة في هذه المجموعة الشعرية، وهي قصيدة (فيروز)، التي ينقل لنا فيها ما تعني لنا المطربة فيروز وصباحاتها الندية، وتأثيراتها، وهي ممتدة بتأثيرها من ماض موغل في القدم وحتى يومنا، ما زالت فيروز تنعشنا وتمنحنا نسائم ندية من صباحاتنا:
لأنَّكِ إنْ يُحدِقْ بنا الصحوْ
طائرُ الأساطيرِ
لمْ يسكُنْ بأي مكان
تجيئننا حيناً
بهيئةِ موجة
وتأتين أحياناً بزيّ أغاني
فتبدأُ أحجارُ الطريقِ
افتتانَها
وتنخرطُ النّاياتُ في اللمَعانِ
ونحنُ على النبع انتظرْنا صبيةً
وفي قصيدة (كَأنَّهُ هُوَ) نكون في طواف في أروقة الأحاسيس والمشاعر والتداعيات التي تلامس حياتنا، ونتماهى مع كل مفردة منها، ويعرج أيضاً على القصيدة وعملية بنائها:
فالشعْرُ ضوءٌ باهرٌ يُعشي
فلا تُحدّقْ طويلاً في القصيدة يا فتى
ولا يَختلِطْ مَعناكَ بالعَيشِ
فقدْ تصيرُ البلادُ الحُلْمُ مقبرةً
ويُصبحُ الوطنُ العُشيُّ كالنَّعشِ
(كأنهُ هُوَ) يا بلقيس مَوعدُنا
فَقَبِليني على مرأى من العرشِ
غريبةً كنتِ قبلَ الحبِّ سيّدتي
كغُربةِ الموناليزا قبلَ دافنشي
وفي قصيدة (الزعيم) والذي أهداها (إلى القديس الشهيد عبد الكريم قاسم)، ينقل لنا الشاعر مكانة الزعيم في نفوس محبيه، وخصاله وصفاته وتواضعه، وحبه للفقير، وحياته المتواضعة، وهو يتناول وجبة غذائه في (سفرطاس) يأتيه من بيت أهله، وينام على الأرض كأي إنسان فقير، ومنجزاته الكبيرة:
أتذْكُرُ بغدادُ كَفَّيكَ حين تُزيحانِ عنها (الصرائف)؟
ثمَّ تُشَيِدُ مُغتبطاً فوقَها مُدُناً وأغاني
لكنّهم قتلوكَ قُبيلَ البلادِ
مدائنُكَ الآن لا تحملُ اسمُكَ
لا تتذكرُ عينيكَ
إذْ تَحرُسانِ مَسَرَّةَ أطفالِها
كلّما يذهبونَ لصُبح المدارسِ
ثمّ يعودونَ قبلَ الحروبِ
مدائُنكَ الآن لا تتذكّرُ
كمْ كنتَ تُوجزُ وجهَكَ في مخبز ذاتَ فجر
ليكبُرَ وجهُ الرغيفِ
وفي قصيدة (لَيليّات) ينقلنا الشاعر إلى الليل كما نراه وكما نعيشه، وهو يصاحبنا كل يوم، في تداعيات حسية شعرية شفيفة هادئة منسابة كماء نهر صاف:
أخي أيّها الليلُ الذي ليَ عندَهُ
أحاديثُ غرقى
ما روتها الشواطئُ
إلى حزنهم يا ليلُ
خُذني سفينةٌ
لها في أقاصي اللا هناكَ موانئُ
أتذكُرنا تلكَ المحطاتُ صبيةً؟
وأيلول مِنْ أحلامنا البيض هازئُ
وفي قصيدة (بغدادُ تَحكي) نكون مع بغداد، التي تسكن شغاف القلوب، تلك المدللة الغنوج، وهو يحكي لنا عن لسانها ما آلت إليه الحياة فيها:
مَرّوا ببغدادَ عُشاقاً
فأحزنهم
وغْدٌ على دمعِها يختالُ
أو مِسخُ
رأوا على النخلِ
للغربانِ مملكةً
وللشحاريرِ
يدنو مُوحشاً فَخُ
تذوي الحياةُ
وتعرى في شوارعها بُخلاً،
وكما لفيروز محبيها ومكانتها بين الناس، فإن للصوت الريفي الحنين المطرب داخل حسن مكانته أيضاً بين الناس، وهو يذكرنا بالظهيرة في ذلك الزمن الجميل، ورائحة السمك المشوي تنساب لتثير الجوع، والأمهات وهن يفترشن الحصران لجلسة يشاركهن داخل حسن في صوته، ففي قصيدة (داخل حسن) التي حملت اسمه، يقدم لنا الشاعر توليفة شعرية لهذا الصوت الجنوبي وما يثير فينا من شجن:
كيف يكفي هواهُ هذا الغناءُ؟
والجنوبات حزنُهُ المشاءُ
مُدُنٌ بصمت الصحراءُ
وقُرّى جَفَّفَ الطغاةُ ضُحاها
فمتى يَنطلي عليها الماءُ؟
منْ هنا مَرَّ
مُعْجَماً للمواعيدِ
تلاقتْ به السنينُ الظِّماءُ
وهنا حولَهُ الليالي
عشيقاتٌ يُلوَحْنَ
والنخيل نساءُ
وعن الكرادة وهي قلب بغداد، ومكانتها عند الشاعر، وما حصل فيها، يقدم لنا الشاعر قصيدة تحمل عنوان (كرّادةٌ للقلب):
كرّادةُ القلبِ مَرسى للرمادِ بها
ومُلتقى لدخان مُوجع ضاري
وهيَ التي لمْ يُقَبِلْ مُذنبٌ يدَها
إلا وعادَ نقِيَّاً دُونَ أوزارِ
سفينةٌ (للمكاريدِ)
الذينَ نَجَوا ليَغرَقوا
عبثاً من غيرِ بّحارِ
وفي قصيدة (مَقامةُ إبراهيم) وهي مهداة (إلى إبراهيم الخياط) وهو شاعر شغل منصب الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وكان مثالاً للطيب والاخلاق والإيثار، فكسب حب الجميع، وهي رثائية مؤثرة:
كانَ ضَوءً
مِنْ لَيال بِقيت
بَعدهُ خاليةٌ مِن قَبسِ
نَعشُهُ مَرَّ سريعاً
مِن هنا
بِضحىً في فقدهِ مُنغمسِ
فوقهُ حَطَّ حَمامٌ
ومضى
باحثاً عن حُلْمِهِ المنِدرِسِ
هُوَ مَنْ أسَّسَ جمهوريّةً رَحبةً
للبرتقالِ المشِمِسِ
فارساً كانَ
على أسوارِها
وهكذا وبعد أن مررنا، على نقل جزء من نماذج لنصوص شعرية، مكتملة البناء، ومتماسكة في توحدها، متراصة مع بعضها، بلغة شعرية جديدة، وبثوب جديد للقصيدة العمودية، ومفردات معاصرة تصل وجدان القارئ، يتبين لنا أن الشاعر أجود مجبل هو واحد من الشعراء الذين خرجوا من شرنقة التقليد والتكرار، إلى حيث الحداثة منطلقاً في فضاء رحب واسع.