صحن مُقعّر

ندى قطان

لم تلدني أمي تحت جسر الثورة المُبتلع، الذي يمتد فوقي الآن كموجة عالية، سوداء متسخة، لا تنتهي. حين كنت طفلًا، كانت تُعلّق والدتي حقيبتها السوداء الجلدية اللامعة على مقبض كرسيي الخاص في الخلف، وتدفع بي إلى السوق. كان ذلك قبل سبع سنوات تقريبًا. لم أكن أرى وجه أمي في الرحلة. قدماها الصغيرتان كانتا قدمي الصغيرتين. تعطلي وسكوني كانا معلقين بهما، وبإيقاعهما المتزن على الرصيف؛ تتجهان حيث لا أعرف، وتتوقفان لشراء شيء ما. يُمتِعني ذلك فأبتسم، من دون أن ترى وجهي… كانت تُعلّق أيضًا أكياس الشراء المختلفة على ظهري.. أقصد على مقبضي الكرسي المتحرك. كنت أحسُ بالثقل يزداد، ويبطئ الحركة، حين تشتري الفواكه الحامضة الكبيرة الحجم. أما البقدونس، فقد كان يملأ أنفي برائحته الخاصة، فأفزع وأفرّ.. في ذهني… الألوان شتى. أعرف منها ما تفضله أمي. ثياب بكل الاحتمالات، ولكل أوقات النهار والليل. جميعها تناسب أمي في خيالي.. تضرب الثياب وجنتي، وهي منشغلة، فتخرجُ منها روائح مخزَّنة، مختلطة بعطور شاذّة لا أعرفها… مع تطاول زمن الرحلة، كانت تتلاحق أنفاسها وهي تدفع كل شيء معًا. كان الكرسي عجيبًا في تلك الرحلات، فقد كان يطير بي قياسًا إلى بلادته في غرفتي المُصمتة. تلفازي في غرفتي أيضًا مُصمت، أو ممتلئ بخيالات فارغة لأرجل تتحرك، وأذرع تتحرك، وأصابع لينة مهما كانت غليظة، أو نحيلة. تحت الجسر الأسود، يتحرك البشر – الذين يستطيعون فعل الأشياء – من حولي. تتكدسُ قطع الأثاث المسلوب من بيوته، ويتم تحريكه ونقله إلى أصحابه الجدد في شاحنات تصدر أصواتًا كالرعد بقوتها، في فضاء هذا العالم السفلي. فاجأني ذات ليلة دغل ما بين فخذي، حين نسيت أمي أمر عودتي للمنزل. لم أحاول لمسه بطريقة ما! دفعتني رائحته إلى الجري فزعًا كالأرانب.. في ذهني. صرت الآن شيئًا تنمو فوقه أشنيات البحر السوداء، هنا بين فخذي، وفوق وجنتيَّ، وشفتي، وعلى صدري… شعري المثبت فوق جمجمتي يزداد ويزداد طولًا أيضًا – كالأشنيات الأخرى – بينما يمر المارة، يرمون أوراق النقد الرخيصة المهترئة في حِجْري، ويمضون.. كأنني صحنٌ مُقعّر.. كأنني زورق جاف.. أثبتُ الأوراق بقبضتيَّ كل مرة، كما أوصت أمي. قبل اختفاء الضوء للمرة الأخيرة في هذا العالم، أنظر إلى قطع الأثاث الساكن، كأنه يفهمني، وننتظر معًا. أفكر أن نباتات البحر المتشابكة ستبتلعني حتمًا، قبل أن تظهر هي بقدميها.. لكنها تأتي، وتنتزعني من المكان بسرعة؛ يأخذها الفزع كأنها تريد أن تختفي، أو تخفي شيئًا. تجري تقريبًا، ولا تعلق شيئًا على مقبض كرسيي الذي تدور عجلاته الأربع أخيرًا، كأنها تذهب بي إلى حلم يطوي حقيقتي، أو إلى غرفتي المُصمتة التي تطوي عالم الجسر!.. لست أدري، لكأن والدتي خفيفة، أو لكأني خفيف وأصغر وأصغر.. أبتسم لأني لا أرى وجهها؛ يطمئنني ذلك، فأرى الطوفان إثر ذلك، وهو يغمر هذه البقعة من المدينة.. في ذهني… في الصباح المُبكر، تأخذني أمي إلى ذات البقعة؛ تتركني.. وكأنها تخفي شيئًا ما بعد سبع سنوات على الحرب. المدينة تخفي شيئًا ما تحت هذا الجسر!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة