في ديوان الشاعر منذر عبد الحر

تداعيات لوح القصيدة الأبدي

( مطر صاعد إلى السماء )

محمود خيون

قالوا:- أن الشعر الحر ظهر نتيجة لعدة عوامل أولها ماسببته الحروب من دمار وقتل، وبالتالي كان لابد من ظهور شعر يتكلم عن معاناةالإنسان، ويصف الهمجية الإنسانية، والعامل الثاني انتماء الكثير من الشعراء لتيارات سياسية وفكرية خلقت في ذهنهم أفكار جديدة، أماالعامل الثالث هو التأثر بالشعر الغربي ومذاهبه الرومانسية والواقعية ورغبة الشعراء في التجديد والثورة على القديم…) ..

وهنا توكيد لما تقدم من القول بأن للشعر الحر خاصية تميزه عن غيره وهي أنه لايخضع للوزن ولا لأحكام القافية وعدد تفعيلاتها، وعرف بأنهمجموعة سطور متفرقة ومختلفة في عدد الكلمات، إذ ينتقل الشاعر بكل حرية من سطر لآخر من دون قيود تذكر…مع التحكم بوحدة مضمونالقصيدة والاوصاف والتعبيرات التي يختارها الشاعر بما يتلاءم ومضمون النص الذي قد يتولد من الخيال كما كان يفعل الشعراء في القديممن الزمان وعبر العصور

وتطور آلة الشعر…والكثير من الشعراء الذين يندمجون أو يعرفون بالخيال الواسع المشحون بالسريالية التي تطفو على القصيدة لتكون وحدةرمزية يحتاجها الشاعر في بناء القصيدة للتخلص من قيود المتسلطين على رقاب الناس من الحكام أو البشر أنفسهم….

وفي هذا المحور فلا بد لنا أن نذكر من هم رواد الشعر الحر الذي اتصف بالمواصفات انفة الذكر…. ومنهم نازك الملائكة التي بدأت رحلتها في قصيدة الكوليرا ثم تبعها بعد ذلك الشاعر عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وفي الوطن العربي ظهر نزار قباني الذي غزا الساحةالأدبية باشعاره التي تتصف بموسيقاها العالية والعذبة ثم تلاه بعد ذلك محمود درويش… وفي الغرب ظهر العديد من شعراء الحداثة الذينخرجوا أيضا من ماسي الحروب وويلاتها بجراح فاغرة وأحزان ومصاعب قبل وخراب ودمار….فبدا الكثير منهم إلى البحث عن نمط جديدلكتابة القصيدة التي تكفل فتح آفاقا واسعة لتلبية حاجات الشاعر في التعبير والوصف ومرونة الولوج في إستخدام حاجيات ومتطلباتالإنسان اليومية أو( نشر الحياة اليومية في التعبير أكثر شيوعا ).. وكما وصفها الباحث والكاتب صبحي حديدي، بأن السمات الكبرى في قصيدة النثر تلك تضمن الوحدة في الايجاز والنوع الشعري حتى دون تقطيع السطور على غرار الشعر الحر وحسن توظيف انساق التكرارالإيقاعية والتصويرية والتكثيف المتدرج والتراص وما إلى ذلك..)…

وفي ديوان( مطر صاعد إلى السماء ) للشاعر منذر عبد الحر نجد أن أغلب قصائد الديوان اخضعها الشاعر إلى وحدة المضمون وبناءالسرد المترادف الذي عرف به الكثير من شعراء الخمسينيات والستينيات وصولا إلى مرحلة سعدي يوسف وفوزي كريم وجان دمو وكمالسبتي ايمان عرابي وجواد الحطاب ورشيد مجيد ورعد عبد القادر وغيرهم….التي امتازت بعذوبة الإيقاع والموسيقى من دون التقيد بأحكامالوزن والقافية … لقد عرفت الشاعر منذر عبد الحر منذ مطلع الثمانينيات وعملنا سوية في  التسعينيات ولم نختلف في يوم ما على من أنه يعرفني جيدا لا اميل إلى شعر الحداثة لأنني شاعر  قافية وجميع قصائدي تخضع لأحكام الوزن والقافية وعدد التفعيلات، حتى ما كتبته من الشعر الحر…إلا أنني كنت من المعجبين بشخصية الشاعر منذر عبد الحر والتزامه الأدبي واحترامه لخيارات الآخرين من زملائه حتى وصلإلى تسنم مسؤولية القسم الثقافي في جريدتنا آنذاك…فلم يختلف مع أي شاعر أو كاتب…كتب الكثير من القصائد التي تتحدث عن معاناةالإنسان وعن القوة الجبارة والقاهرة التي تحكم السيطرة على مساحة حريته واستقلاليته مثلما نقرأ اليوم له هذه النصوص المدماة بالألم والحزن والاكتئاب فهو يشعر بالمعاناة الحقيقية لمن حوله من الناس أكانوا أقارب أم من لبة أهله ومحبيه..  وهذا يتضح جليا في قصيدةالديوان الأولى ( اصدقائي )…* الاثرياء*

أصدقائي الأثرياء

ضعوا ثرواتكم

وكنوزكم

وكل مايطمح به فقير مثلي

ضعوها جانبا

وتعالوا اسمعكم أخر نكته

اضحكوا…

ثم يواصل هذا النداء الصارخ بكل حزن يحمله الفقراء من ألم وضيق وشغف في العيش فيردف..

الضحك مجاني

ونحن الفقراء

نجيد صناعته

تعالوا معي

لن تتلثم صحبتي ثرواتكم…

ثم ينتقل بنا الشاعر منذر عبد الحر إلى قضية أخرى يبوح بها بأشياء مغمسة بالحرقة والألم والحزن معا فيصف ذلك لنا بهذا الخطاب:

جثت على صدورنا

صخرة..

جعلت حياتنا

من فرط بكائها

مجنونة بالضحك…

اقرأوا على خطوطها حكايات المحن

عرفتنا الشموس الشرسة والحروب…

والاكواخ المهددة

بمطر الأمنيات…

من هنا يقترب بنا الشاعر إلى محور القضية وهي كيف أن الطغاة يجثمون على صدور الناس مثل صخرة عتيدة حتى يضيقوا بها على ٔنفاسهم…وهذه هي مرحلة مهمة من مراحل قضيتنا الكبرى مع الألم والجوع والدمار والموت في صحارى وهضاب الحروب..

وفي لوحة أخرى من لوحات منذر عبد الحر التي خطها بفرشاة مغمسة بألوان العذاب والعري الروحي والتعب الجسدي الذي نخر عقلا لإنسان من تفسخ الأحلام الخائبة وأناشيد الفتوحات الخاسرة والمكللة بدماء الأبرياء من الفقراء الذين مازالت صور الحوريات في الجنة الموعودة تراودهم في سبات ليلهم الموحش..  ففي قصيدة ( أيها الغد..قف بعيدا ) يصور لنا الشاعر منذر عبد الحر …مناجاته مع القدر واهواله الغادرة والمسلولة كسيوف الغازين ورماح التتار المبلولة بالسم…،:-

أيها الشامت بحطام أيامنا

الضاحك من فتوحات امنياتنا

لاتأت..

دعنا ننام طويلا

حالمين بجنان

ومراكب صيد وكنوز

وحوريات….

لاتأت….

يكفيك أن تنظر إلى ساعاتنا

إلى ملامحنا…

بعد هذا الإتهام الواضح والمقرون بالدلائل يوجه الشاعر اللوم الى القدر وما سببه من مأس وويلات بحق الغارقين في وهم الجنات الموعودة فهاهو مرة أخرى يتحدث بكل صلابة وجرأة عن واقع نفسيته ومرارتها منذ أن وطأت اقدامه هذه الأرض الملعونة والمشحونة بالانقلابات والمؤامرات والموت والخيانة،  والعهر السياسي والاجتماعي الذي فاق كل تصور:-

انا… البصري…

القادم من برك اللوعة

إلى خيمة الامل

حلمي باشط

وسلامي.

زهور منسوحة من دهشة

عطرها الصبر

والحنين واللهفة.

يتبين لنا مما تقدم أن الشاعر منذر عبد الحر في ديوانه ( مطر صاعد إلى السماء ) . إستطاع أن يصور حجم الغربة داخل النفس التيعاشها ويعيشها ابناء وطنه في ظل واقع مأساوي تخللته الحروب والمهاترات السياسية والمضايقات التي تنبعث من عيون المخبرين ومن تحتطيات معاطفهم البرنزية المعتمة وهم يتخذون من زوايا أركان المقاهي القديمة مواقعا للمراقبة والمطاردة لحريات الخلق…..أو أن..منذرا..أراد  بذلك أن يصور كل المناظر الغريبة والمشوهة التي طغت على نهارات الحياة في تلك المرحلة التي عاشتها البلاد…

ونراه يزجنا في اتون تلك المعاناة في صورة أخرى جسدها في قصيدة (انا سيزيف..السعيد ) ..  وكيف كان الحمل ثقيلا كصخرة سيزيف المشهورة التي كلما رفعها إلى اعالي الجبل ردت عليه:

اما انا…المنسي…

أدفعها بيدين من قلق

وأمل..

واغنيات جمعتها في سلة وهم

اخفيها عن الجلادين

الذين يراقبون راسي

كي لا احلم بالخلاص

فأنا…..لااحمل صخرة

أنه الرذاذ تكدس….

على ظهري…

ويواصل في محتوى القصيدة بعدد أبياتها هذآ النشيج فيختمها..:-

أنا سيزيف العاشق.

أطفأت خوفي بالألم

وتركت جسدي هائما

فيما روحي السعيدة

طارت للاعالي بجناحين من جنون…وحلم..

لا عليكم.. أنا سيزيف السعيد…

ويكشف الشاعر منذر عبد الحر في قصيدة( مطر صاعد إلى السماء )…وهي عنوان المجموعة الشعرية ..عن حجم الحقد والكراهية لكلمناظر الدمار الذي يخلف العشرات من الضحايا الأبرياء في مقدمة القصيدة(( يقول طفل من ضحايا الإرهاب والكراهية:- ساخبر الله بكلشيء ))… وبكل مااحتوت القصيدة من ابيات حملت معان كبيرة ودلالات تمقت حالة الفوضى والجريمة التي ارتكبها من حقد على هذا الوطنوخيراته بحق الناس وراح ضحيتها الكثير والكثير من الأرواح والممتلكات….

وهنا يذكرنا الشاعر منذر عبد الحر…بشاعر روسيا الكبير الكسندر بوشكين، الذي امتاز وعلى الرغم من أنه عاش حياة ترف وعز( أنه كانمتعاطفا مع الفقراء والبسطاء من أبناء شعبه،  فعبر عن مطالبهم التي تنشد العدالة الاجتماعية ورفض الظلم الإجتماعي وسعى إلىالمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات وتجلت هذه الأفكار الشعرية منذ بدأ بنشرها ومنها قصيدته( أغنية الحرية) المثيرة للجدل والتيأدت إلى نفيه ) …

لقد إستطاع الشاعر المبدع منذر عبد الحر في ديوانه( مطر صاعد إلى السماء ) ..أن يكون أكثر  حبكة ودراية ومهنية عالية.. فكانت شاعريتهوالتي اتصف بها كشاعر عرف سر القصيدة وتنقلاتها وعبر مفاوزها بكل صلابة في صياغة معاناة شعبه في لوح قصيدة مدماة وما حدثلوطنه من كدمات وجراح اثقلت كاهله وجعلته يدور في حلقة مفرغة من الضياعات والتشتت والتمزق الذي طال عقلية مبدئيتة التي عرف بهامنذ مئات العصور وكتبها التأريخ في سفره الخالد…

لذا نستطيع الجزم على أن ديوان( مطر صاعد إلى السماء ) للشاعر المبدع منذر عبد الحر  يعد صورة لروعة الشعر الحديث تضاف إلىاسفاره ولمن خلده من الشعراء….

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة