محمد زكي ابراهيم
ربما كان آخر التعريفات التي أطلقت على الإنسان باعتبار دوره الوظيفي أنه “كائن تواصلي”، يميل إلى الارتباط بعلاقات خاصة مع أبناء جنسه، ومع الطبيعة والكائنات الأخرى التي تتقاسم معه العيش على ظهر هذا الكوكب. وتختلف درجة هذه العلاقات بين المباشرة وغير المباشرة، والمادية والروحية، والفردية والجماعية، والعابرة والدائمة، وهكذا.
والأهم من ذلك كله أن هذه الصلات باتت الأساس لمهنة عرفت في عصرنا هذا بالإعلام، اعتمدت على المشافهة حيناً والكتابة حيناً آخر، واستخدمت الصوت والصورة كأدوات لنقل المعرفة، والوفاء بالتزامات المسؤولية الاجتماعية.
إن حدود التواصل تعتمد على شكل السلطة، أو نوع العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالقرارات السياسية التي تصدر عن قمة الهرم هي في الأصل انعكاس لما تمليه مطالب وحاجات الناس. ولا يستطيع أي نظام أن يكون بمعزل عن شعبه، لكن استجابته تتباين من واحد لآخر. ولم تكن الجماهير المحكومة في الماضي قادرة على إيصال تصوراتها إلى الحاكم، لعدم وجود قنوات اتصال مباشرة. وكان لا بد من وجود “نخبة” تستطيع أن تنجز المهمة على أكمل وجه.
ولأسباب كثيرة، فشلت النخبة التي تضم رجال الثقافة والإعلام والإدارة والسياسة في أداء هذا الدور. واضطرت، خوفاً أو طمعاً، لتزوير إرادة الناس. وحاولت تزيين صورة الحاكم وتبرير أفعاله، باعتبارها مطالب شعبية بحتة. وأدى الأمر أحياناً إلى إيقاع هذا الحاكم في الوهم، حتى ظن أنه ظل الله في الأرض. وحينما حانت لحظة الفراق، وأطيح به من شاهق، أدرك أنه خدع، وأنه كان في واد، وشعبه في واد آخر.
وهكذا كان التواصل غير المباشر خطأ استراتيجياً وقع فيه الملوك والرؤساء في كثير من البلدان. وكانت كلفته باهظة جداً. لكن هؤلاء لم يعودوا قادرين في ظل تيار ما بعد الحداثة، الذي خلقته عوامل كثيرة منها التقدم التقني، أن يحكموا الناس عبر وسيط. لأن الفرد العادي بات قادراً على البوح برأيه في أكثر المسائل تعقيداً. وأخذ يفكر ويكتب وينشر وأحياناً يصرخ، طبقاً لما يراه هو. ولم يعد الحاكم بحاجة للنخبة أو الأتباع لنقل ما تريده العامة. فهو يقرأ ما يكتب، ويستمع أو يرى ما يذاع، في المواقع والصفحات الإلكترونية. فلا عجب إذا ما تضاءل دور النخبة إلى أدنى مستوى لها منذ قرون.
لكن الواقع أن نظام التواصل الذي ألغى المسافة بين الحاكم والمحكوم، لم يلبث أن أصاب المسؤولية الاجتماعية في مقتل، بعد أن أصبح بوسع الجميع التلاعب بأمزجة الغير، أو حرف الحقائق، أو خلق البلبلة، لتحقيق أكبر فائدة، بغض النظر عما يصيب الآخرين من ضرر.
ولأن التواصل – كما كان دائماً – سلاح ماض. فإن الحاجة ربما ستكون ضاغطة في المستقبل لتقييده حتى لا يصبح أداة تدمير. فلا شئ في هذا العالم يمكن أن يبرر الهدم الممنهج للبنى الاجتماعية بحجة الحرية أو المصلحة أو المتعة الشخصية.