قراءة في رواية أمجد توفيق
محمود خيون
قرأنا الكثير من الأعمال الأدبية والروائية والقصصية وشاهدنا السيمية منها.. على وجه التحديد التي تتحدث عن الحرب والسلام والاحتلالات لدول صغيرة لاتملك من أدوات الدفاع عن سيادتها القوة التي تجابه بها غطرسة جحافل جيوش الغزاة..وعرفنا كم كانت معاناة الناس من تبعاتها خاصة حالة السلم بعد الحرب والذي ينتج عنه احتلال تلك الدول…وما يتمخض عنه من خسائر لاتحصى بالأرواح والممتلكات التي تغدو فيما بعد فصولا تحفل بالويلات والمأسي..إذ تولد من رحمها حروب صغيرة وانقسامات وتمزق مابعده تمزق يحطم كل البنى التحتية والاساسية لمقومات الدولة. وتحت غطاء الحرية والتخلص من حكم الطغاة والعبودية..ناهيك عما يحصل من أعمال تخريبية وسرقة للمال العام والبنوك والمؤسسات العامة والخاصة وغيرها…ومن ثم البدء في الصفحة الثانية وهي حرقها من قبل جهات مجهولة كانت تتربص لانتهاز الفرصة حتى تلحق الأذى بالجميع…
وهناك أمثلة كثيرة ساقها لنا الروائي أمجد توفيق من خلال شخوصه الذين أتى بهم من أزقة ضيقة تقع بين شارع الرشيد والجمهورية والكفاح وسط بغداد…فقاموا بسرقة البنوك والدوائر وأصبحوا بين ليلة وضحاها من أسياد القوم يسكنون القصور في المناطق الراقية ويركبون السيارات الفارهة…واصحاب أملاك وجاه أمثال( إنتصار ومجموعة البلطجية الذين ترأسهم ) ..وغيرهم من قطاعي الطرق والبغاة..بعد ساعات من احتلال العاصمة وسيطرة القوات الأجنبية على مداخلها ومخارجها..
ومايؤكد ذلك تلك الحادثة الغريبة والفاجعة التي يرويها لنا الكاتب عن لسان أحد أبطال روايته وهو( بشار ) الذي إتصل( بأخيه الساكن في بغداد مهنئا وبعد أقل من دقيقة..تحدث الاخ عن حادثة شاهدها صباح اليوم نفسه..قال كنت عالقا في ازدحام مروري في منطقة الحارثية حيث رأيت رجلا مع زوجته وطفلة لاتتجاوز السادسة من العمر قرب العاب للاطفال في اللحظة تقدمت سيارة لاتحمل لوحات تسجيل، في داخلها ثلاثة شباب كانت تسير على الرصيف وحين اقتربت من العائلة فتح أحدهم الباب الخلفي للسيارة..وسحب الزوجة الى داخلها…صرخت الزوجة وهجم الزوج على الخاطف، فتلقى رصاصة في كتفه.كتفه، سقط نهض مواصلا هجومه على الخاطفين فأفرغوا مخزن رشاش في صدره سقط صريعا يتخبط بدمه وسط صراخ الطفلة والزوجة…)
أن هذه الحادثة وغيرها تعد من مخلفات الحرب والاحتلال وانهيار البناء الهرمي للدولة التي تعاني من ويلات التدخل الأجنبي…ولعل أمجد توفيق في هذه الحادثة وغيرها من الحوادث التي وردت في مجمل فصول الرواية…يعيد إلى أذهاننا بقصد أو من دون قصد ماكتب من روائع عن الفوضى والخراب الذي عاشته أوروبا بعد احتلالها من جيوش الحلفاء وماخلفوه من جرائم بحق الإنسانية…وهذا ماجسده الكاتب دالتون يرامبو في كتاباته عن جرائم المحتلين على الرغم من تباين الإختلاف بين المنجزين فالاول يتحدث عن حرب واسعة الظلال بكل افرازاتها والثاني يتحدث عن حرب قادت إلى الإحتلال من توضيح أو إشارة واضحة لمرحلة ما بعد الحرب والانهيار الذي ساد الأجواء آنذاك…وكما وصفها الباحث والكاتب السوري يزن الحاج في حديثه عن آثار الحرب التي تجسدت جليا من خلال رواية( لاجديد في الغرب ) للكاتب أرنس ماريا ريمارك والتي استطاعت أن تتحدث عن الإحتلال مابعد الحرب أية حرب والتي تتحول إلى محض كابوس بعيد….
نقول أن( الظلال الطويلة ) وأن احتوت على رموز خبرية ودلالية فهي تشير الى مقت الاحتلالات من خلال ما دار من حديث بين بشار واخيه حين ارتعشت يده وهي ممسكة بسماعة الهاتف( قال …أين الشرطة..أين أخلاق الناس؟! قال الاخ…لاوجود للشرطة والناس خائفون وهم ليسوا بمسلحين ليستطيعوا مواجهة المجرمين…أن المواطن يخشى حمل السلاح كي لايتعرض إلى تفتيش مفاجئ من دورية أميركية أو عراقية…ثم أردف:- والمجرمون؟! أنهم أحرار وهم في وضع ذهبي…أي عيد هذا؟! …آسف أنت من حاول التهنئة….ماذا تقصد ؟! :- لاتصح التهنئة للعراقيين….)..
يقال أن الأدب أكثر الفنون( تعبيرا عن الإنسان واللحظات المأساوية التي يمر بها الشخص ويعد وسيلة للتوثيق وتسجيل الأحداث قبل التلفزيون والسينما..فكان الأدب وسيلة تعبير العديد من الشعوب )..
وإننا نستطيع تشبيه الوضع بعد الإحتلال والفوضى التي رافقته برواية الكاتب الأميركي دالتون ترامبو والتي تدور أحداثها حول جندي تعرض لقذيفة مدفعية افقدته وعيه ليستيقظ ويكتشف أنه فقد أطرافه ووجهه وعيناه واذناه وفمه ، لكن رأسه مازالت تعمل..وكأنه أصبح سجينا داخل جسده….ويبدو لنا أن هذه الحادثة تشبه حال البلاد التي بقيت تغص في ظلام دامس مع إنقطاع الكهرباء وغياب الخدمات الأساسية وانعدام الأمن والأمان وغدت مسرحا واسعا للجريمة المنظمة وغيرها كمثل الجندي في الرواية رأس يتحرك ومن دون عيون أو فم أو آذان….وتبين ذلك من خلال شعورنا بحالة الكاتب التي رافقتها نوبات من العصبية الذهنية الخارقة التي تتلاحق مع الأحداث لتكون وحدة موضوعية متكاملة حتى وإن أطاح ببعض عناصرها جوانب من الاحباطات النفسية وكما وصفها وصفا دقيقا الدكتور الناقد الكبير خالد علي مصطفى بالقول أن العمل الأدبي ليس حياديا فهو مثقل بالعواطف والانفعالات والأفكار التي تدل صاحبها أو مايريده منها صاحبها وفي هذه الحال يجد القاريء نفسه مجبرا على أن يتخذ هو الآخر موقفا منها. رفضا أو قبولا..نقاشا، أو تأملا، أما القاريء الحيادي فليس إلا خرافة أدبية ككثير من الخرافات الأدبية التي يجب أن تحال إلى علم الأساطير…
ومن هنا يتأكد لدينا نحن معشر حرافيش الأدب ومدلولاته العريقة منذ أول قصة كتبت وحتى يومنا هذا…يتأكد بأن أمجد توفيق اعتاد في كل مرة أن يخرس تلك الثورة الجامحة داخل نفسه فهو يعلم قبل غيره من الناس أن الموت نهاية حتمية لكل كائن حي يريد أن يمارس حياته بشكلها الاعتيادي فهو اذن يفصح عن ذلك بالوصف( تموت الأشجار إذا نقلت من أرض لأرض وتموت الطيور إذا غادرت بيئتها..وتموت الحيوانات…أنها تدفع ثمن صدقها..والصدق عندما يكون نقيا أصيلا فإنه
يصبح وجها آخر للموت فالموت يحفظ للصدق نقاءه…أنه يقتله…)
ثم يستدرك الكاتب في ايحائية تبدو للوهلة الأولى غامضة بعض الشيء لكنها سرعان ماتكشف عن معاناة كبيرة تجوس في أعماقه المعذبة فيردف..( وبرغم القسوة والجمر الذي ينشف ماقي العيون يكون الموت في حالات كثيرة محورا تتوازن الحياة على محيطه فهو سرها وفكرتها العميقة ورعبها الذي يبتدع آلاف الوسائل للنسيان أو الكذب…)…
أن أمجد توفيق في ظلاله الطويلة أراد أن يجسد عوالم الأسطورة والرمزية من خلال تشابك أسماء أبطاله وربط تحركاته بغموض سحري سرعان ما تتكشف صورته وتتضح معالمه لدى القاريء الدارس أو الاعتيادي أو الباحث الاكاديمي وتبقى هذه الحالة ملازمة لشخوصه الذين اختارهم من صميم المعاناة واختراق فيهم ذلك الواقع المأساوي الذي خلفه الإحتلال والذي عاشت الناس فيه من دون تطلعات أو آمال أو حتى أحلام ندية، لقد عتمت الأشياء وتمزقت أحلى صورها الخلابة وظلت تحتمي بظل مثقوب عند تلك الظلال الطويلة…
تبقى( الظلال الطويلة ).. أكثر من شاهد ووثيقة هامة وخطيرة تحوي على ملفات سرية تتحدث بكل شراهة عن حجم الدمار والأسى الذي خلفه الإحتلال وماترتب عليه من قصص وحكايا تتحدث بكل طلاقة عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك الدمار والتشتت والتمزق الذي طال جميع مفاصل الحياة..