دوغماتية الخلاف في رواية «الوجه الآخر للضباب»

القسم الثاني

عبد علي حسن

إن هذا الاقتلاع القسري بفعل انتهاء مهمة والدها ليعود إلى وطنه سوريا ، سيكون سبباً من عوامل عدم تمكنها من الاندماج في بيئة الوطن البديل، وبالتالي سيكون سبباً في تمسّكها لفواعل هويتها الأولى وسيكون سبباً ثالثاً في تصرّف الآخرين العنيف الذي اتخذ أشكالاً متعددة ازاءها بدءاً من زوجة الأب وإخوانها من أبيها وحتى الأشخاص الآخرين ، كما حصل حين تم تتويج روزالين (ملكة جمال) في المدرسة ، فجنّ جنون العائلة من الأب وزوجة الأب وأخوتها من أبيها ( جنّ جنون ابي وأخوتي ، فقدت زوجة أبي أعصابها ، يومها اشترك اخوتي الأوسط والأكبر في ضربي ، وبعد عودتي إلى البيت ، اخي الاكبر حافظ أسمعني عباراته العنصرية …؛ أنتِ مسيحية قبيحة، انت صفراء، انت بشعة، لن أسمح لك بالعودة إلى المدرسة ….النص ص 112) ، ويتبدى في النص السالف الخطاب الدوغماتي في المستويين الأُسري المحتكم إلى موجهات وثوابت المجتمع البطريركي / الذكوري والأبوي ، والديني الذي يحتكم إلى الراسخ في موقف الإسلام من الديانات الأخرى ، ففي المستوى الاول تماهت زوجة الأب مع الموقف الذكوري فاصطفّت مع موقف الأب والأبناء من ظهور «روزالين» كملكة جمال في المدرسة وانها ستكون عرضة لرؤية الآخرين بالشكل المنافي للأخلاق الإسلامية والأعراف الاجتماعية في المجتمع السوري/العربي. ويمكن عدّ موقف زوجة الأب هذا من قبيل الحقد الدفين لروزالين باعتبارها ابنة الزوجة الثانية ، وانها تتحين الفرص للإيقاع بهذه الابنة وإظهار امتعاضهم وحقدها عليها ، إلّا أن صوت المؤلف يظهر على نحو تقريري في النص الآتي (بل بلغت بهم قساوتهم ولا مرؤتهم _ على تشددهم الظاهري في الدين الإسلامي الذي يفترض به أنه دين سماحة وصلة رحم …النص ص126) على الرغم من أن تصرف عائلة زوج الام الآنف الذكر يكشف _ كما أشار النص الى التشدد الديني ، إلّا أنه لا يتقاطع مع الموقف الديني من الحجاب ، لذا لم نجد ضرورة لصوت المؤلف الذي تدخّل ليطرح رأيه في هذه القضية التي يحاول تكريسها في النص الروائي بعدّها خلافاً اكتسب الصفة الدوغماتية ، وعلى مستوى دوغماتية الخلاف الطائفي فإن الرواية وعبر مذكرات (روزالين) تدخل الى منطقة الحرب الأهلية الدائرة في سوريا لتكشف عن حجم الانتهاكات التي تقوم بها الجماعات الإسلامية المسلحة بحق المدنيين من العلويين والشيعة وحتى المسيحيين والملل الأخرى. ويعتمد النص على بعض الوقائع والفواكه التي حصلت في ريف اللاذقية وأساليب القتل والذبح الوحشي الذي طال الرجال والنساء الحوامل والشيوخ ، وتخلص (روزالين) في مذكراتها إلى نتيجة أو كشف للموقف السياسي عبر هذا النص ( يسوء بعضهم قولي أن العربي خائن ، مرتزق ويحلُّ دم أخيه ، رأيي الشخصي هذا ماكنت لأُثبته هنا لو لم يكن خلاصة مراقبة دقيقة وعن كثب لمجريات الحرب ، لست هنا اتحدث بصفتي روزالين نصف الروسية ونصف السورية ..أتحدث هنا بصفتي السورية مئة بالمئة …النص. ص 177).
. لقد حاول النص الروائي ( الوجه الآخر الضباب) طرح مقارنة أو كشفاً الثقافتين مختلفتين تماما ، الأولى هي مكونات الهوية الثقافية لبطلة الرواية التي كوّنتها السنوات العشر التي قضتها منذ ولادتها في روسيا والتي شكّلت الهوية الدينية مركزاً انبثقت عنه جميع مواقف البطلة وكذلك الشخصيات الأخرى ، فهي تصرّح ( انبثق وعيي الديني بولادتي وسط أسرة مسيحية ارثذوكسية تحترم الأديان ، ليست لديها عقدة تجاه دين منها …النص ص 167). والثقافة الثانية هي ثقافة مضادة تمثّلت في الإقصاء والدوغماتية إزاء الأديان والطوائف والسلطة الذكورية التي مثّلتها عائلة (ثروت) والد روزالين وزوجته وأولاده والجماعات الإسلامية السلفية.
وفي الوقت الذي تمكنت فيه الرواية من طرح وجهة نظرها كما أكدتها قراءتنا لدوغماتية الخلاف في مستوياتها الآنفة الذكر، وفق الإحاطة الدقيقة بحيثيات تكوين المجتمع الروسي والسوري ، فإن النص قد اعتمد آليات وتقنيات روائية أسهمت في توفير عامل التشويق لمتابعة الأحداث التي امتدت على قسمي الرواية التي اهتم قسمها الأول بتكوين خلفية الوضع الاجتماعي للشخصيات، عبر استخدام ضمير الغائب / هو الذي تكفّل بسرد تلك الخلفية المتضمنة ظروف لقاء (ثروت) بالروسية (كرستينا) ونشوء علاقة حب تكللت بالزواج الثاني لـ (ثروت) دون أن يذكر لها زواجه الاول مع وجود ثلاثة أبناء شكّلوا فيما بعد قلقاً هوياتياً لابنتها (روزالين) بعد اصطحابها من قبل أبيها إلى سوريا إثر وفاة أمِّها في روسيا. لقد تمكن النص عبر استخدام الراوي العليم من رسم الإطار السردي لما سيأتي من أحداث شكلّت بؤرة مركزية للكشف عن رؤية/ وجهة نظر الرواية في طبيعة الاختلاف الهوياتي بكل مستوياته وتحوله إلى خلاف اكتسب صفة العنف تمثّل في العديد من المواقف سواء كان في بيت أبيها أو في المدرسة أو في المكان الثالث/ الشارع، والنزاع المسلح بين الفصائل الإسلامية على اختلاف توجهاتها السلفية أو التقليدية ، فقد كان هذا القسم الأول من الرواية محيطاً بطبيعة الاختلاف والأطراف المكونة له ، لذلك كان استخدام ضمير الشخص الثالث/ الراوي العليم مبرّراً وصحيحاً ، خاصة فيما يتعلق برسم ملامح الشخصيات ومكوناتها الاجتماعية والفكرية، فيما شكّل القسم الثاني الذي يحتلُّ نصف مساحة الرواية _ دفتر مذكرات روزالين _ الذي ارسلته إلى خالها (اندريه) بطرد بريدي وهو عبارة عن سيرتها الذاتية منذ وجودها في سوريا مع أبيها وعائلته، وقد شكّلت هذه السيرة مادة حكائية للرواية الأولى التي يكتبها صديقها الأديب العربي (وجدي زينل ) الذي تعرفت به عبر وسيلة الفيسبوك ، تلك الرواية المفترضة التي سيتكفل الروائي (وجدي زينل) العربي، ربما هو الروائي (كريم صبح ) كاتب الرواية موضوع الدراسة، حيث تكفّل الراوي كلي العلم وهنا (روزالين) وباستخدام ضمير المتكلم، للوصول إلى أبعد نقطة في شخصيتها للبوح بمعاناتها الداخلية إزاء ما يحصل لها من تعنيف وتعامل بعدّها مسيحية وابنة الأب ، إذ لا يمكن استخدام غير الراوي كلي العلم للإخبار عن مكنونات الشخصية الداخلية وموقفها مما يحصل لها. ولعل الاستفادة من تقنيات التواصل الاجتماعي والإنترنت قد أضاف للرواية أبعاداً معاصرة تمثلت في توظيف تلك التقنيات على صعيد تشكّل العلاقة العاطفية ورواية الأحداث وفق تقنيات الميتاسرد وظلّت نهاية الرواية مفتوحة بالإشارة إلى مفردة ( بدأت) للتدليل على بقاء الوضع الاجتماعي وفواعل الخلاف قائمة وكذلك التعامل معها بدوغماتية واضحة تشير إلى الشرق الملتهب بأوراق ادّعاء امتلاك الحقيقة لكل فصيل من الفصائل والطوائف المتناحرة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة