علي لفته سعيد
لم تعد الرواية مجموعة حكايات مثلما لم تعد القصة مجرّد حكاية أمام هذه التطورات التي أوصلت النوع الأدبي بكل مسمياته الى متغيراتٍ حقيقيةٍ أطلق عليها النقاد والمفكرون في حقولهم التجريبية العديد من الميتات التي لم تستقر على حال، حتى صارت ميتا ميتا ميتا سرد مع كلّ تطوّر فكري أو تطور كتابي. بل أن الرواية لم تعد تحكم بخاصيتها الحكائية أو قربها من السرد وتشابه وجود الاشخاص والزمن والتاريخ وبؤر الصراع بل بمتحكمات الادارة واللغة والانزياحات وقدرة التعاقب والمناورة..
ولأن الرواية هي العنصر الأكثر تطوراً من العناصر الأخرى كونها هي المتسيّدة على عالم التلقّي مثلما هي متسيّدة على اهتمامات الأدباء ورغبتهم بكتابة روايةٍ حتى من قبل الشعراء والنقاد أنفسهم، فإن الرواية وفق مفهوم النقاد، إنها العمل الأدبي الذي يتمتّع بقدرةٍ كبيرة على التخيّل وربطه بالواقع. ورغم إن لا تعريف ثابتٍ للرواية كما يذهب الكثير من النقاد
لذا فإن الحكاية التي تعد على إنها (نصّ شبه ثابت، أي أن هناك قسم ثابت و اخر متحول يتغير بحسب ظروف الراوي أو العصر الذي يعيش فيه، قد تكون الأحداث الملقاة واقعية أو خيالية بشكل نثري أو شعري، لجذب انتباه المستمعين أو القارئين) وقد ربطها النقاد، على إن الحكاية (لا يعرف عادة مؤلف نص الحكاية و تستند الوقائع قد حدثت بالفعل و اكتسبت نوعا من البطولة ويتم إيصالها شفوياً) ولهذا المفهوم ربما تشابه أو تطابق مع الرواية كمفهومٍ متّبع في الكتابة القصصية والروائية وحتى المسرح. وهو (ويعدّ أداةً للتعبير الإنساني، ويقوم الكاتب بترجمة الأفعال والسلوكات الإنسانية والأماكن إلى بنى من المعاني بأسلوب السرد، وبذلك يكون الكاتب قد قام بتحويل المعلومة إلى كلام مع ترتيب الأحداث) وهو ما نقصد به الإدارة أو ما توصلنا إليه في مفهوم بنية الكتابة الذي اجترحناه في متابعة الأثر الكتابي للمبدع والسرد يتنوع على العكس من الحكاية التي تضمر نسقاً واحداً وهو ضخّ المعلومة والثيمة بإطارٍ وسياقٍ ظاهري لا يحتوي على نسقه المضمر.. ولهذا فإن هناك اختلافاً بين الرواية التي تعد مذكرات أو اعترافات وبين الرواية التي تعتمد على المخيّلة وبناء الحدث وفق إدارةٍ خاصة تنوجد من قدرة السارد على الإتيان بطريقته الخاصة.. ولهذا فإن أغلب الروايات التي تعتمد على المذكرات تكون ناجحة في حكايتها لكنها فاشلةٌ أو غير منضبطةٍ في إيقاعها السردي، وهنا يستوجب أن نقول أيضا إن هناك اختلافاً بين النثر والسرد والنثر خارج إطار الشعر أقرب الى الحكاية منه السرد. وهو ما دفع جيرار جينيت الى إصدار العديد من الكتب من أجل منهجة (الانجازات المركزية للاتجاه البنيوي والنقد الجديد، في البحث عن سياقات تكشف بناء النص الأدبي، وطرائقه الإبلاغية ومكوناته وأنساقه التكوينية) وهذه الكتب (توحي باهتمامه الخاص بالبلاغة الأدبية. لأن الأشكال لفظة مأخوذة من التسمية التقليدية للبلاغة، التي كانت تسمى «نظام الأشكال» وتتضمن الاستعارة والكناية والمجاز) وهنا تكمن أهمية التفريق بين الحكاية والسرد لأن الاستعارة والكناية والبلاغة الأدبية قد لا تتوافر في الحكاية، لكنه يجب أن تتوافر في السرد.. بل أن جينيت في كتابه (من الشكل إلى التخيل) كان يركز (على وظيفة السرد في تفعيل متخيّل القارئ) وهو بالتالي أي جينيت كان دائما يبحث في كتبه عن ( سرّ الكينونة الأدبية وأبعادها ومقوماتها).. ورغم إن قراءات جينيت تأخذ البعد البنيوي في نقده وأفكاره، فإن هذه القراءة لا تبتعد عن حقيقةٍ جوهرية. إن كل كتابة يمكن أن تكون حكاية، ولكن ليس كلّ حكايةٍ يمكن أن تكون روايةً دون وجود مقوماتها الفاعلة، حتى لو كانت الحكاية تعتمد على المخيلة أو الأسطورة وفيها كميات كبيرة من الدهشة.. لكن الإدارة التي تغيب عن طرق الحكاية تتوافر دائما في الرواية التي تنتهج السرد سبيلا لإعلان وجودها بما فيها البلاغة اللغوية.. وجينيت أعد ثلاثة محاور لمكونات النص السردي وهي: ( المحاكاة والحكي التام. ـ السرد والوصف. ـ القصة والخطاب. ) رغم إنه يعرض مفاهيم إفلاطون في هذا الأمر على الأقل في المحور الأول لكنه يأخذ عناصر السرد باعتبارها هي الحكاية ذاتها وعليه لابد أن نقول إن هذه المحاور الثلاثة تنطبق على الحكاية التي يجب أن تتوافر فيها ما ذكره.. ولكن من جهة أخرى فإن السرد من أهم منطلقاته لكي يكون سردا أدبيا أن تتوفر فيه الصنعة والاشتعال اللغوي والاشتغال المفاهيمي والتمحور الفكري والاستغلال العقلي والإدارة في لملمة المهشّمات في الزمان والحبكة والمراوغة في استخدام التقنيات الحديثة كالتنقيط والتنجيم والهوامش والشوارح وعدم التوجه الدائم الى الإمام.. على عكس الحكاية التي تريد في مبناها إعطاء الحدث التصاعدي الدرامي للثيمة والصراع.. وكذلك فإن السرد هو روح التماهي مع اللحظة الكتابية في حين تعتمد الحكاية على روح العاطفة في التفاعل والتناغم والقبول معها.. وكذلك فإن السرد تتشعب حكايته وليس من الهين وضعها في بوتقة واحدة في حين إن الحكاية يمكن لها أن تتحول الى حدث شفاهي.
إن الكثير من الأعمال التي نقرأها الآن فيها من الحكاية الشيء الكثير لكن غاب عن منتجها أن يكون ساردا فيها.. فهو يكتب الأحداث وفق رؤية الحدث اليومي الحكائي, إذا ما أراد النجاح فيها فإنه يتحول من الحكاية الى رواية الصوت التي تنتقل بالحدث من خلال الروي دون وجود لخاصية السرد التي تعتمد على الانثيالات الفعلية والصراع واللغة..
لكن جينيت يعود ويخصص تعريفاً أو منهجاً أردنا الاقتراب منه حين لامس السرد باعتباره خصوصية جمالية وبلاغية لمكونات شعرية النص، وهو بهذا يريد القول إن اللغة ومفاخرها يمكن ان تكون الحد الفاصل بين الحكاية والسرد لأنه أراد ( إقامة نظرية عامة في الأشكال الأدبية تستكشف إمكانات الخطاب.. وبهذه الصفة يمثل التيار النقدي الطامح إلى توضيح فعل الكتابة ذاته).
إن المنهج الإجرائي للتفريق بين الحكاية والسرد قد لا يبدو واضحا إلّا للمنتج والنقاد.. وبطبيعة الحال فإنه يمكن الوقوف على تفاصيل الفرق حين نعرف ونفهم إن ليس كل كتابة روائية فيها سرد عالٍ إذا ما اعتمدت على روح الحكاية التي نطلق عليها ( السالفة ) التي يمكن ألّا تكون فيها تعدد مستويات الروي والانتقال من روي غائب الى حاضر إلى متكلم إلى مخاطب والراوي العليم والسرد بضمير الغائب.. لكن السرد يتحمل وزر كل هذه الطرق والانتقالات الروائية إذا ما فشل في عملية التحكم في إدارتها مثلما يمكن التوافق مع جينيت في هذا المسعى حين يقول إن السرد فيه (فكرة وجهة النظر وتحويلها إلى مفهوم البؤرة الذي يفرق بين الراوي والرائي وبين البؤرة والقص يعد أحد الإنجازات الكبرى التي قام بها على صعيد مراجعة موضوع وجهة النظر) ولهذا يمكن أن نسمي القص عند جينيت إنه السرد في المفهوم الآني للمنتج الأدبي.
إن الحكاية ربما لا تضع السارد لها كجزء من الحكاية فهو يتحدث عن شخوصه وأبطاله بعيدا عن التحكم بالانفعالات الكتابية.. وهنا نقصد الكاتب المنتج فهو يذهب بها إلى أن يروي لمجرد الروي من أن أحداثا وقعت في هذا الجزء من العالم حتى لو كان فوق سطح المريخ مثلا.. ولهذا فإن السرد يربط هذه الاجزاء حتى لو كانت متناقضة. وحين يجمع جينيت هذه المواصفات ويطلق عليها مقولات ثلاث هي (الزمن والصيغة والصوت) فهو هنا يدمج الحكاية بالسرد من خلال تفحص مقولة الصوت التي هي جزء من الحكاية حتى لو كانت مكتوبة على شكل رواية، لأنها قابلة للحكي وإن إنتاجها كان وفق سياق لم يعد مقبولا من قبل القارئ المهتم بالإنتاج الروائي الذي يستخلص منه الفعل العقلي لا العاطفي لأن الكثير من الروايات تنجح لأن فيها كمية كبيرة من العاطفة أو التأييد لمرحلة زمنية معينة.
والأمر ذاته ينطبق على ما توصل إليه الناقد الروسي الشكلاني توماشفسكي حين حدد وجود شكلين من السرد، هما الموضوعي حيث يكون الراوي كلّي العلم ومسيطر وعارف بكل شيء.. والثاني، ذاتي ويرتبط بمعرفة المتلقي بالحكاية حيث بحسب رأيه (من خلاله يتعرف المتلقي الحكاية من الراوي نفسِه الذي يتساوى والشخصيةَ الحكائية). ويعتقد إن هكذا نوع من السرد ينحصر(بكثافة، في الروايات الرومانسية، بخلاف السرد الموضوعي الذي يتوسل به كثيراً مبدعو الرواية الواقعية) وهو الأمر الذي نريد التأكيد عليه من أن الحكاية تهتم بالمنظور الداخلي والعمق الحكائي والانتقال اللغوي والتلاعب بالزمن.
وبين أساليب الخطاب الذي تعتمد عليه الحكاية بوصفها تهتم بالمنظور الفوقي للعمل دون الغوص بما تحتاجه عملية السرد لإنتاج روايةٍ قابلة على ترك المتلقي منتجا لها بصورة عقلية.
وعليه يمكن أن ندرج تعريفا خاصا بالرواية هو الأقرب الى فصل الحكاية فيها عن السرد من كونها (ان الرواية.. ماهي إلّا كتاب حافل بأجزاء المتناقضات والمتفقات وجامع لأجزاء الدروس المختلفة للعلوم الاخرى. وحامل قصديات يراد منها تخويل الذات بان تخاطب الاخر من زاوية غير منظورة او من خلال خط وهمي يتصل بالصفحات وينتهي بفهم المغزى , ومداعبة العقل واستغلال طاقاته الفيزياوية لتكوين فعل اخاذ يتحرك كحركة الذرات التي تتلاقح لإنتاج خاصية فلسفية لها ابعاد تشويقية).