دوغماتية الخلاف في رواية “الوجه الآخر للضباب”

القسم الأول

عبد علي حسن

 انشغل الروائيون العرب والعراقيون تحديدا بتكريس جملة من الثيمات التي ترشحت من حراك الواقع الاجتماعي بعد التحولات في بنية المجتمع ضمن ما سمي بالربيع العربي ، والذي شهد صعود قوى طرحت مشروعها الديمقراطي بديلا للنظم الاستبدادية والدكتاتورية التي هيمنت على مقدرات شعوبها على اختلاف هوياتهم السياسية والدينية والقومية والإثنية.  وانتقلت هذه الهويات من منطقة الهامش إلى منطقة المركز عبر التمثيل الديمقراطي في المؤسسات البرلمانية ، وسرعان ما تحولت العلاقة بين هذه القوى إلى علاقة تضادية توجهها مصلحة هذه الهوية أو تلك، وصلت إلى مستوى التصفيات والإقصاء وعلى كافة المستويات داخل المؤسسة الدستورية وخارجها، لتكون هذه الديمقراطية المجال الرحب الذي وفر الارضية الصالحة لتلك التجاذبات، وعكست وعياً أحادي الجانب تغليباً لمصالح الهويات الفرعية دون الاهتمام بالهوية الرئيسية الوطنية، وظهرت فواعل القلق الهوياتي بفعل عوامل تهديد وجود هذه الهوية أو تلك، وبذا فقد تحول الاختلاف بين الهويات إلى خلاف، لعل من أهم مظاهره الخلاف المسلح متخذا صفة الدوغماتية. ونتيجة لهذا التحول وبفعل اقتراب الروائيين من هذا الحراك فقد ظهرت ثيمة قلق الهويات الدينية والطائفية والاصطراع السياسي، وتكريس المجتمع البطريركي / الأبوي الذكوري مما أوجد ثيمة العنف الأسري للأنثى بعدٌها هامشاً، على الرغم من مساهمة المرأة في التحولات الاجتماعية ، لتسمَ المجتمعَ بسمات التقهقر وانعدام الأمن والأمان وضياع فرص التقدم، كل ذلك دفع الروائيين العراقيين الى تمثل تلك الثيمات والسمات في الكم الكبير من الإصدارات الروائية التي بلغت أضعاف ما أنجز قبل التحول البنيوي للمجتمع العراقي في 2003 ، بفعل غياب الرقابة على المطبوعات وحرية التعبير وانتشار دور النشر في طول البلاد وعرضها التي اباحها الدستور.

ويعد قلق الهوية من خصائص سرد ما بعد الحداثة، وقد تسللت هذه الخصائص الى النص السردي العربي والعراقي بشكل متسع ومكثف حتى صارت من سمات ومظاهر النص الروائي العراقي ، ولعل حراك الواقع العراقي بعد عام 2003 قد انتج هذه الخصائص التي تهيكلت على جملة من الوقائع التي تحتفظ فيها ذاكرة المتلقي على نحو معيش ومنظور، ولم يجد الروائيون العراقيون بداّ من الدخول الى اظهار هذه الخصائص عبر استثمار تلك الوقائع المعاشة واعتبارها ذرائع لطرح وجهة النظر المشكلة لرؤية النص الروائي ، وبمعنى آخر فإن تلك الوقائع قد اتخذت صفة الوسائل للكشف عن تلك الرؤية ، ولم تكن بأية حال هدفا للكشف عنها او التذكير بها ، اذ انها معاشة بالنسبة للمتلقي ولن تضيف شيئا الى فظاعة وبشاعة ما حصل في تلك الوقائع على المستوى الواقعي ، لذا فإن كل ما سيرد في النص الروائي ان هو الا وهم بالواقع ، كمحاولة لاستدراج المتلقي الى منطقة التوصل الى رؤية النص الفكرية ، وفيما عدا وجهة نظرنا الآنفة ان هي الا محاولة يائسة لمشابهة الواقع التي لا تغني المتلقي بقيمة جمالية وفكرية ، وهنا تتبدى قدرة النص على الغوص تحت سطح تلك الوقائع للكشف عن المسكوت عنه ظاهريا ، ولزحزحة الوقائع باتجاه انتاجها مرة أخرى لتتناسب والرؤية الفكرية والجمالية للنص الروائي ، لإظهار الواقع المخفي والمستبطن لحراكه الداخلي، ووفق ما اسلفت سيكون تحليلنا لرواية “الوجه الآخر للضباب”  مدخلا لعالم الرواية الصعب للمرة الأولى، إذ سأتناول بشيء من التكثيف رؤية النص الروائي في اعتماد الأحداث كذريعة للوصول إلى طرح رؤيته المتمثلة في الكشف عن دوغماتية الخلاف الهوياتي الذي ظهر إلى سطح الوقائع بشكل واضح و الذي تجسد في مستوياته الثلاث العنف الأسري / الديني / الطائفي /عبر متخيل سردي كان نموذجه وبطلته (روزالين) التي كانت معاناتها مزدوجة تمثلت في المعاملة القاسية من قبل زوجة الأب (ثروت) وأبنائه ، لكونها روسية الأم ومسيحية الديانة. فقد تمكن النص من فضح الموجهات اللا إنسانية التي تمثلت في التعنيف المستمر للبطلة الذي شكل التمييز الهوياتي والعنف الأسري الذي تتصف به الشخصية الشرقية التي كونتها فواعل الدوغماتية لحل مشاكل الاختلاف ليتحول إلى خلاف لا يمكن الوصول إلى حل له إلا عبر العنف والإقصاء وتهميش الدور، إلا أن قوة شخصية البطلة واستمرارها لنجاح مشروعها الحياتي والدراسي والمهني قد خفف من غلواء العنف الذي مارسته الأسرة ( الغريب أنه على الرغم من محاولاته المتكررة ، فإن أبي لم يفلح في إجبار اخوتي على معاملتي معاملة طيبة يرضاها دينهم ، لسبب لا غيره ، امّهم اللئيمة …النص ص109)، وعلى نحو متسع تمكن النص من الكشف عن الاحتراب الداخلي الذي اتخذ صفة الخلاف الطائفي على الأرض السورية.

لقد أسهم المتخيل السردي عبر تخليق بنية المكان وبناء الأحداث والشخصيات المفارقة لما هو مألوف في معالجة الوقائع لتتخذ الخصائص الدرامية في النص صفة ما هو جوهري في العلاقات الإنسانية ، وبذلك فقد تجنبت الرواية تكريس الاهتمام بما حدث والانتقال إلى السؤال الجوهري للرواية وهو كيف حدث ؟ وما مغزى ما حدث ؟ ، وبذلك تجاوزت الرواية المواضيع المألوفة في الرواية العراقية منذ اندلاع الخلافات الطائفية والهوياتية ، إلى منطقة أكثر إقناعاً على المستوى الإنساني، عبر تجاوز المكان والزمان العراقي الى مكان وزمان مغايرين للتدليل على شيوع هذه الدوغماتية على المستوى العربي والعالمي ، كشفا عن قدرة الكاتب في الإحاطة بالمكان الروائي الخارجي ( السوري والروسي) الذي كون خلفية مكانية لوقوع الأحداث،

لذا فإن توزع الذات بين مكانين شكّل قلقا في تأكيد هوية روزالين ، فالسنوات العشر التي قضتها في روسيا شهدت تكوّناً متكاملاً في شخصيتها على الصعيد الديني والعادات والسلوك والثقافة ، وحازت شخصيتها على خصائص كوّنت ميزات لهويتها الثقافية ، لذلك فهي تشير في بداية دفتر مذكراتها الذي ارسلته من سوريا إلى خالها اندريه إلى بداية ذلك القلق الهوياتي ( كيف يُقتَلع المرء من جذوره ؟ لا رغبة لي، أنا فتاة الثامنة عشرة،  أن أبدا مذكراتي هذه بفلسفة وجعي، بسؤال الطائف منه بعد ثمان سنوات من التلاعب من وطن حنون عشت فيه اروع أعوام طفولتي و جزءاً من مراهقتي، ونقلي كشجرة من دون جذورها ، إلى ؛ وطن بديل؛ ….النص ص 104.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة