روجيه عوطة
لماذا يتلاشى وقع المنتج الثقافي حين يريد حمل رسالة ما؟
الإجابة على هذا الاستفهام، الذي أتقدم به، لا تقتصر على دافع دون غيره. لكن، وفي إثر رحابتها هذه، لا بد من محاولة تحديدها قليلاً.
أول الخاطر لي أمام الاستفهام إياه هو المقولة التي تفيد بأن المنتج الثقافي لا يجب أن يحمل رسالة، بل عليه أن يبقى فارغاً منها. وسبب هذا، أنه، وحين يحملها، ستثقله، ستبطئه، كما أنها ستضعه في خدمتها ليصير كناية عن ظرفها، بمعنى وعائها. وأن يغدو المنتج كذلك، فهذا يجعله مشكلاً على نحوها، أو بالأحرى من أجلها. وبعبارة واحدة من رطانة بعيدة نوعاً ما، المنتج، وبحمله رسالة، يقع في استلابه. من الممكن أن نتخيل الأمر بطريقة كاريكاتورية تحيل الى أسطورة نيوتن: المنتج فوق، واستلابه تحت، وما أن يوضع فيه رسالة، حتى يصير على وزن، ينزل به الى أسفل. بالتالي، مركز ثقالة المنتج الذي يحمل رسالة يقع في استلابه.
بالطبع، تخيل المنتج هكذا يبدو دفاعاً عن حضوره في علو ما، الا أنه، فعلياً، بمثابة تمسك بحضوره على عموديته، بحيث أنه، وحين يقع في استلابه، فهو يسقط أفقياً!
ربما، من هنا، يمكن إضافة مقولة أخرى، وهي أن المنتج، وما أن يحمل رسالة، حتى يهجس بايصالها، ونتيجة ذلك، إما يصير وسيلة هذا الايصال، أو أنه يبدأ بمزاولة التواصل. أن يتحول الى تلك الوسيلة، يعني، وببساطة، أن ينمحي أمام رسالته. بالتأكيد، ثمة من سيستمر في ترداد عبارة “لكن للوسيلة وطأة على الرسالة”، لا شك في ذلك، غير أن المشكلة في هذا السياق عويصة أكثر. إذ إن الرسالة إياها هي التي تخلق الوسيلة، التي، وبدورها، حين تتسم بوطأة عليها، فلا تكون سوى ابتغاء انخراطها فيها: وطأة الوسيلة هو إرادتها أن تجعلها الرسالة منها. على أن مزاولة المنتج للتواصل، وإن كان يتعلق بتحوله الى تلك الوسيلة، فهو لا يُختزل في هذا التحول. مزاولة المنتج للتواصل يعني تمحوره حول بعثه لرسالته الى متلقيه، أن يجعله يفهمها، يشرحها له، يخبره إياها، منتظراً منه أن يتفاعل معه بخصوصها. وعلى هذا النحو بالتحديد، ثمة ما يطرأ على لغة المنتج لتصير لغة تواصل، وبالتالي، تخسر إبداعها.
لا أعرف إن كان، في وضع التواصل مقابل الإبداع، ضرب من المبالغة، لكن يمكن تقديم المنتج على أساسه، بحيث، وحين يصير مزاولاً للأول، يكون بعيداً من الثاني. كما لو أن المنتج الذي يتواصل ليس مبدعاً. هذه المعادلة قد تبدو انعزالية، غير أنها ليست كذلك، فأن يزاول المنتج التواصل لا يعني أن ينقطع عن متلقيه، بل على العكس تماماً. فهو، في هذه الحالة، قد يشير له الى منفذ من التواصل صوب لغته هو، يعني الى لغة، وباختصار شديد، تكون لغة حساسيته.
لكن، ماذا يعني ألا يحمل المنتج رسالة؟ معلوم أن التأويل الذائع يساوي اقلاع المنتج عن رسالته وأن يصير منتجاً مسكوناً بخوف من حمله رسالة. هذا الخوف يترجمه مثلاً صاحب المنتج الذي يريد أن يجعله تافهاً، بدلاً من منتج بلا معنى، أو لا شيء. كيف؟ من خلال تشكيله على أساس استبدال الرسالة بموال.
قبل أن استكمل هذا التعليق، أريد أن أحدد معنى ما للموال، معنى لا علاقة له بولادته في تاريخ المغنى: هو ما يردد ويردد من دون أن يؤدي سوى الى ترداده. بالطبع، قد يحيل الى اللازمة، لكنها لا تتطابق معه. اللازمة، أو تردادها يؤدي الى حركة، الى تحرك، على أن الموال، هنا-وأشدد على هنا، لأنه في مقدوره أن يكون فناً بامتياز- يؤدي بترداده الى ترداده… أقفل القوسين، مستكملاً التعليق.
يصير المنتج تافهاً حين يستبدل الرسالة بموال مفاده أنه لا يحمل رسالة. إذ إنه يبدأ بإعلان ذلك باستمرار، وما أن يطل المتلقي عليه حتى يرمي مواله بالانطلاق من كون هذا المتلقي يستفهم منه عن رسالته. الخوف من الرسالة، من حملها، يؤدي الى تفاهة ترداد الموال حول تجنب حملها. وهذا الموال-وهذا خبر مؤسف- يتحول مع الوقت الى رسالة. ما الموال؟ هو رسالة لا تريد أن تعلم بكونها كذلك.
كيف لا يحمل المنتج رسالة بلا أن يكون تافهاً؟ كما فعل ذاك الذي قال ذات يوم “أنا ما بديش وصلوا رسالة”، لم تكن عبارته هذه رسالة، ولا موالاً، كانت جملة تشكلت في لحظة تمكنه من لغته. جملة قالت إن هم الرسالة وتجنبها لا طائل منه.
*عن موقع المدن