خيرة بلقصير
حسين نهابة رافد أسوته دِجلة والفرات, دافق أدبي خالص يجري ما بين التَّرجمة والشِّعر وفنون الكتابة، ابن العراق الذي يحملُ سيرة ذاتية معرّشة ومكنونة بالإنتاج الأدبي الغزيز الذي لا ينضب يتراوح ما بين التَّرجمة والقصة والرواية… وللشّعر عنده بذخ الأكاليل في شجرة الذائقة والوعي والجمال, سبعة دواوين شعرية:
تجليات عطشى , طقوس ما بعد الأربعين , فجر التَّعاويذ مائة شيبة وشيبة, صلاة الغائب، خلخال غجرية، اعذرني إن لم أُودّعك,, هي دواوين أثث بها الشَّاعر المكتبة العربية زخما شعريا من التجارب والامتحان والأمل ليتم هذا الفيض بصدور ديوانه الثامن الأخير “قباب غرناطة” الصادر في شهر تموز 2020 عن دار الدراويش لبوفيدين –بلغاريا, محدثاً في المقروئية الثمينة والذائقة طفرة شعرية رائدة أقل ما يقال عنها تجديد مُتميز ورنين حداثي في الشّعر المعاصر.. الإبداع المُنعش الذي يستلهم مشكِّلا ثروة إبداعية بل وليمة شعرية كُتبت بروح الشاعر بعذوبة منضدة وكأنه الرسم بالرَّمل ومعانقة الوجود بالأسئلة المحمومة, قباب غرناطة هي حنين ووعيد التاريخ الذي يتسلَّق العبارة تلوى العبارة, الفقد المؤهل في سيرة إنسان يأكل ويشرب ينام ويصحو, يحب ويكره يسافر, يسقط يجاري طائر الفنيق يتلَّمس الرماد المقدس, يكتب بشراهة “الماتادور” حين يهوي بسِهامه على ثور الرداءة الأسود, رافضا تلك العبارة المتهالكة.. أُكلت يوم أكل الثور الأبيض, لا بياض هنا سوى صِبغة اللّحظة المعتقة ما بين الأبوة والرَّجاء, الخيانة والوحدة, الاختلاف والعشق, الكثير من الأسئلة التي تطرح مجداً أن لا جواب سوى النبض والوجل والاستمرار في مناكفة الصُّور الشِّعرية التي تهطل بسخاء كالأمطار الموسمية في وجدان دافئ.. كما الأسئلة التي تأتي تباعا كإلصاق لتُهم جميلة بخفة ساحر, يقول الشاعر:
مَن انتِ؟\ساحرة شرقية قدمت\ من خيام السلاطين \ ومياه مرمرة؟ \ اي قدر توّجك \ الوحيدة القادرة على \ رسم البسمة في وجهي؟ \ من اباح لكِ \ ان تتسلقي لهيب الشوق \ في غابات النخيل، \وتُسقطي غيوم الحزن \ عن ملامحي؟
هو العناق الطويل لجُمل يتلبسها الغُموض؛ الإطناب الشَّديد لنص مستعصي يتخفى وراءه الشاعر متمتما بالعقود والأوصَال.. هو حتما يرفض الشِّعر الثقيل كالقطار والمزعج كصفير البخار, فتأتي الكلمات كسرب عصافير.
يأتي السؤال في شعر حسين نهابة مُبرزا لذلك الصراع الداخلي كديمومة الحيرة ما بين تكثيف لأسلوبية لافتة لوعي الدَّلالات وعمقها ومنحها الاستمرار في انسياب لا كلفة فيه ولا جهد مطلوب انه الشِّعر الذي يشبه صفاء الماء في نوافير أندلسية تسكن وجدان الشَّاعر الذي تشربت بساتينه بثقافة زريابية الوتر, محسوبة كخطوات التانجو, أنيقة وموغلة في سريالية المشاعر الجبَّارة في جمال وحشي أخاذ, وفي خصوبَة معهودة تغذت من فِطرة الكلمات, من قاموس الشاعر الذي يشبه العشب في طاعته ورونَق الرأس التي تُدير مِحنة النَّص, رأس الشَّاعر التي لا شك انَّها تقاوم المجازات العاتية وتسأل الشروح شرحا لخيبات:
كيف لفتاةٍ صغيرة \ ان تختزلَ تاريخاً كاملاً،\ لمحاربٍ اربعيني،\ لم يعتد الانكسار؟
يتضاعف السّؤال, سؤال للوجود, والحضُور والغياب ولا يريد الشّاعر أن ينال تلك الأجوبة بل يؤجلها كفضاء احتياطي مفتُوح حسين نهابة يمتلك زِمام الدَّهشة مرفوعة بالفِعل كقباب غرناطة:
“هل صحيح انكِ كنتِ \ افدح اخطائي؟ \ اذن، \ لماذا لم يتسخ البحر \ حين\ رميت بكل ذنوبي معك، \ فابتلعه الزبد جذلاً \ وكان نسيا منسيا؟ \ ولمَ صفّق الموج بحرارة \ على جانبي السفينة \ مُحتفياً بالولادة الجديدة؟”.
ربما يكون من الفداحة أن لا نقرأ مثل هذا التُّرجمان الأنيق بين المكاني والزَّماني, بين تلك التُّخوم التي في حواس الشَّاعر المحمية بشفرات ديفانشية مُعقدة رغم سَلاسة السّؤال إلا أنه مُمعن في صلابة فِكرته وكثافة الصُّورة الشِّعرية, مُجذفا إلى آخر رَمق من السّؤال ومن الإجابة التي يملك حتما كيمياء وجودها.
هي القباب الغرناطية حالات الكينوُنة في كشف الغُموض والاستبصار بالفتوحات بعيدا عن التّهويم والوضُوح المبتذل البليد,, الشِّعر الذي يسكن وجدان حسين نهابة منذ نعومة الأزمنة بالقلق المبارك الذي يُمجِّد الأبدية ويهدهد الهشاشة بداخله حينا محدثا الارتجاج الرّوحي وتلك الأسئلة الملغزة.
“مُتّهم انا بالرحيل\ أين آتي بالدليل على براءتي\ ويداي مبللتان بعطرك؟\ماذا سأقول لرفاقي حين التقيكِ صدفة\ على السفينة التي حلمتِ بها؟\ ماذا اقول وانتِ تصوبين\ الى عيني الغارقتين لا محالة\ سهم ربان مُتمرس\ توقدين الملح على يباب آخر كلمة\ وآخر رصاصة رحمة؟\ سيخجل النبض مني\ واتكأ على السياج مُنكسراً\ برذاذ محكمة قديمة.\ يا لخيبة عجوز \ ينسحب منه آخر العمر \ دون حياء!”
تتقاذف الشاعر جُغرافيا متناثرة ما بين صباحات سريالية الانتماء إنها الوجود الطارئ للقصيدة المَحكية قصيدة بمَلامِح رواية أحيانا, ذلك الداخلي لكل مقطع الذي تتبجح فيه الأسئلة العميقة كالإيقاع في سيمفونية بحيرة البجع لتشايكوفسكي, دلالات توطد الأسلوبية اللافتة كحضور عميق واستمرار النص في النص.. في تناغم رشيق يلمس شِغاف الذائقة والوعي.
قباب غرناطة إذن شعرية متواطئة مع الاستفهام حيث يأتي السؤال كمظهر من مظاهر الإبداع .. الاستغراق في الحدس وفي المشاعر.. بحثا عن الوضوح في جوهر إنسان:
“كتبتُ وشطبت كتبتُ،\ اوجعتُ فمزقت \ كيف لي ان اخدش البرعم فيك، وانتِ غدي؟ \هل السعادة حكرٌ على أحد،؟ \ الرب كيفما اتفق؟ ام ان الاولياء يستيقظون في الساعة الرابعة \ يشطبوا قائمة ويرشحوا اخرى؟ \ واين انا من كل هذا؟ \ تعالي، قبل ان يأكلني الانتظار تعالي، فالساعة عنك تسألني.”
السؤال في شعر حسين نهابة الذي يملك ذلك التّعاطف والتّسامح مع اللّغة كمشغل الطّين يتشكل صلصاله نقيض الرتابة والعادة, ليفاجئنا في نصوصه بلسعة لذيذة من الوعي والذوق.. على شكل مزهرية تخدم العقل الباطن بالدّهشة ذلك الخطاب ,”خطاب الطفل المُتواري في كل إنسان” كما يقول أوكتافيو باث.
“وجهك يمت اليّ \بصلة رحم غريبة، \وقدر ان لا اتوقف عن البحث \ في أنساب الأولياء \ وكتب المُعمرين \ وتعطيل بوصلة الحزن التي \ لا تميل الا مع عينيك \ واكتشف اننا نتشابه \ في اشياء لا حصر لها، \ العنجهية الموروثة \ عن صحراء الامازيغ \ والحنين الى موانئ \ لم يعد لها وجود \ والدمع الذي يسيل غزيراً \ ساعة المساء \ على رحيل قريب \ فمَن يضع الأقدار؟”
يمتزج صوت الذات الشّاعرة المأزومة حينا لدى حسين نهابة بما يدور في العالم الخارجي وكأن الديوان يصدح بمقولة عميقة للكاتب سليم بركات ” طويتُ ما لا يطوى ,,نفسي طويتها علي”… هكذا يتبلورُ مونوولوج داخلي يتعمدُ الشاعر فيه إخفاء تداعياته ويضحي بخصوصية تطوي الأساليب التي تحاكي الخراب والألم والعبث, تلك الهوّة الأبدية التي تأجج ممكنات المحتمل والمجهول وكثيرا من أدوات الانبثاق مع أسئلة الصًّيرورة التي تقاوم التشويش في المعنى.
“سأنام الليلة دون ذراعها \ معبأ بسجن انفرادي بليد، \ عبثاً حاولت ان احافظ \ على صفاء عينيها، \ عبثاً حاولت ان اطرد قابيل \ من فراشاتها وفشلت… \ هل انا اول عاشق أراد ان يحتفظ بنعم الله في جيبه الحميم ويفشل؟ \ ليتني لم اكبر ففي كل خطوة جرح وخيبة واغفاءة دون حلم.”
حسين نهابة شاعر سهل عصيب, مدهش كالاختلاف يصدم القارئ من أوّل وهلة إلى آخر نفس في ديوان ” قباب غرناطة” يُسعف معجمه اللّغوي ويُبقي على نُبل الهدف في بلوغ شعري يربط بين الدال والمدلول فلكل سؤال لبسه محققا هدف التواصل مع القارئ دون عناء وفكّ المغاليق إن وجدت.. يكتب القصيدة المهذبة الثائرة من دواخلها بعيدا عن ضوضاء الكلمات وغلوها:
“ما الذي يُغريك في سفن الابيض المتوسط؟ \هل لان اللون في تسميته \قريب من نقاء سريرتك؟ \ام لان بعض ثوراته الهمجية \تُشبه تخبطي وسعيري؟ \ام لأننا اتفقنا ذات يوم ان نشتري \حقيبةً سوداء، غريبة الصنع، امازيغية الغواية، \نكدس فيها كل اوجاعنا وتناقضاتنا وهزيمتنا، \ ونرميها من على سياج الطابق العاشر \ من سفنية “كروز” الأنيقة، \ في هذا البحر الذي تحبين؟”
رحلة حسين نهابة هي رحلة السّلوان في الغياب يحرّر أسئلته على مدى نصوصه الوارفة والمختلفة يبقيها قيد الانتباه تتطور من مغاليق ألفاظه , سبك للأحداث الذاكرة حينا ولوثة بحث واستقصاء عن الحسرة الأندلسية حينا آخر كما يصفها الشّاعر بقوله “.. مثلما فعل عبد الله الصغير حين سلّم مفاتيح الأندلس وغادر….”
الأسئلة التي جرّحت كتاب التاريخ وخبّلت في الوجدان الانكسار؛ المجد الذي يشغل قريحته باللغة الاسبانية كجزء لا يتجزأ من مخزونه اللغوي العميق والاسقاطات الروحية والثقافية لبصمة المدينة المفقودة ,غرناطة الأزمنة والعشق.. الألم المبثوث, وجرأة المخيلة.
“افكر بالاعتزال عن الصلاة.\ حاولت ان ارشو الله \بزيادة عدد السجدات، \قراءة سور كثيرة كالببغاء، \تقبيل السيدة العذراء التي \في واجهة شقتنا الصغيرة \صباحاً وقبل النوم،\الابتعاد عن مضغ لحم الضأن \شهور ثلاثة، \التضامن مع شعب الله المختار، \فما نفعت تجارتي \ولا انا استكنت، \مازلتُ اقسم العالم بيني وبينها \وما فتئتْ تأخذني اثناء عباداتي \الى حيث لا اعرف \الى قصور رملها \الى حقيبتها المدرسية، \الى اقبيتنا المهجورة \وبئرها المُعطل فما افعل؟ اغيثوني”.
لا شك في أنّ قباب غرناطة إرث لغوي مميز يحمل في طياته منهجيات نفسية وتاريخية وأسئلة سرمدية أيضا,غنيّ بالمعطيات الأدبية والفنية, له جودة ذوقية عالية فقد استطاع الشاعر بلوغ تلك الصور المجنحة في المعنى والرسالة الثمينة والإبداع الذي يخفق فيه كل حرف.
في الختام , هنيئا للمكتبة العربية بهذا الوميض الغرناطي العميق وهذا القلم الجارف الذي يبقي على سجية السؤال المبارك والعتب الأنيق وبهذا المقطع الدافق بحمم المجازات أختم هذا القليل الذي يوثق خطوات شاعر مرّ ذات بالقلق وبهاء الاحتمال:
//ايها الرب الكريم الذي قيل عنه الكثير، هل تسامحني لأني اذيتُ نفسي، وجرحتُ ذاتي اكثر مما يجب؟//