بعيدا عما يجتره فلول النظام المباد وواجهاته المستجدة؛ من خطابات وهلوسات حول ما جرى بعد استئصال المشرط الخارجي لأبشع ورم سياسي وقيمي عرفه تاريخنا الحديث “جمهورية الخوف” والذي تختزله عبارتهم البائسة “ما بني على باطل فهو باطل”؛ فان سكان هذا الوطن المنكوب تعرفوا على دفق من الحقوق والحريات لم تتجرأ مخيلاتهم في التقرب من ضفافها زمن كابوس العصر الزيتوني. لكن سؤالنا هو حول؛ المصائر التي انتهت اليها تلك المنحة المباركة من الحقوق والحريات؟ من يقتفي أثر ما جرى من لحظة تلقف أطفال بغداد لرأس الصنم في ساحة الفردوس الى يومنا هذا؛ سيجدها (منحة الحقوق والحريات) قد شفطت بالكامل من قبل قوى ومصالح وجماعات، تمثل الضد النوعي لما هو منشود منها. طبعاً هذا لا يدعونا الى لعن وشتم حظنا العاثر وتسطير المزيد من المرثيات لما آلت اليه الامور، بل الى تدارك ووعي مثل هذه النتائج المخيبة والحصاد المر. فمن شفط حزمة الحقوق والحريات؛ هي المعادلات والاصطفافات الفعلية على مسرح الأحداث، لذلك لا ينبغي استغراب تدحرجها الى أحضان تلك القوى والجماعات المستعدة لمثل تلك التحولات والمستجدات.
لم نكن نمتلك اية بدائل وطنية وحضارية لعراق ما بعد “التغيير” داخل العراق وخارجه، وما زلنا بعيدين عن تلك البدائل، وهذه حقيقة لا يتناطح عليها عنزان، لذلك سيستمر نزيف الحقوق والحريات وفرهدتها من قبل قوى ومصالح وعقائد تقبع في قعر أولوياتها الانتصار لمثل هذه المنظومة من القيم. وكما يقول أبو القاسم الشابي “لا رأي للحق الضعيف ولا صدى/ الرأي رأي القاهر الغلاب” ستبقى الحقوق والحريات التي تضمنها الدستور العراقي الجديد؛ رهينة بيد حيتان “القاهر الغلاب” ممن يهيمن على المواقع والمناصب والمصارف والمنابر والمنصات وشبكة العلاقات الاخطبوطية .. ومع قليل من الدقة والموضوعية في قراءة المشهد الراهن، بكل لخبطاته وتداخل خيوطه واوراقه وطفح دقلاته؛ سنتعرف على حجم الاستعمال السيء لمحتويات تلك المنحة التاريخية، وكم الخبث والمكر والدهاء الذي انبرى لفتل عنق هذه الحقوق الدستورية صوب معلف أكثر القوى والجماعات والأفراد شراهة ولصوصية وشعوذة وضيق افق..!
عندما نتفق على ما أشرنا اليه، سيكون بمقدورنا الشروع بمشوار الالف ميل لاسترداد وتحرير هذه الحقوق الدستورية من قبضة سراق الغنائم الديمقراطية. وهذا يتطلب وعي واقعية ما يجري؛ اي مثل هذه الاستباحات المتناغمة وما انحدرنا اليه من ضحالة الوعي وقلة الحيلة. لكن مثل هذا المنحى من الوعي واعادة النظر المسؤولة والشجاعة لما يجري على أرض الواقع، من اختطاف لهذه المنظومة من الحريات والحقوق الدستورية، لن يتحقق بيسر مع هذه الهيمنة التي يتقاسمها؛ من فقد الغنيمة الأزلية ويمتلك العدة والخبرة وشبكة العلاقات والتحالفات المحلية والدولية، ولا المعسكر الآخر الذي تلقف أسلابها بعد اعتلاء شبح أول دبابة امتطت احدى جسور بغداد. وما نشاهده من استعمال غير مسبوق لحق التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي والاحتجاجات التي لم تنقطع منذ العام 2011 الى يومنا هذا؛ وبالرغم من مشروعية وعدالة غير القليل من مطالبها، لا يمكن فصله عما يحتدم من تناهش محلي واقليمي ودولي. لذلك لن يمر وقت طويل حتى ينجلي غبار كل ذلك، عن نتائج تقبع في قعر قائمتها ما تم ضخه من شعارات ومانشيتات وطنية وثوروية وغير ذلك من حقوق افتقدت فرسانها وشروطها منذ زمن بعيد..
جمال جصاني